الولايات المتحدة تشعر بالقلق من منافسة الصين في مجال الفضاء
ظل الفضاء الخارجي تحت هيمنة وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) دون منازع لعقود من الزمن، والآن مع إطلاق الصين مكوكين لإنجاز مهام سرية على ارتفاع أميال فوق الأرض، تتنافس الصين والولايات المتحدة بهدوء في سباق فضائي جديد يتمثل هدفه في إنشاء قاعدة قمرية صالحة للسكن وبوابة للنظام الشمسي.
قبل بضعة أسابيع أخرج المكوك الصيني «هيفينلي دراغون» جسماً ما من بابه. لا أحد - باستثناء الصينيين - يعرف ماهية ذلك الشيء الذي ظل يسير أمام سفينته الأم وهي تتعقبه، واقتربت منه، وربما سيطرت عليه مرة أخرى. ومن المعروف أنه يحمل حاويات من البذور النابتة، لمعرفة مدى نجاح نموها تحت الإشعاع الفضائي، وهذه تُعتبر تجربة فضائية قياسية. وقبل ذلك اعتاد برنامج الفضاء الصيني نفسه تسويق خضراواته الفضائية العملاقة، والتي تمت زراعتها بأحجام مذهلة من بذور نبتت في ظروف انعدام الجاذبية.
هدف المهام الأميركية
أما الهدف الأكثر عمومية للمهمة الأميركية التي انطلقت في ديسمبر والتي من المتوقع أن تستمر أسابيع أخرى عدة على الأقل، فهو «اختبار أنظمة مدارية جديدة، وتجربة تقنيات الوعي بالمجال الفضائي المستقبلية». ويتمثل الشق الثاني من البرنامج الأميركي في اختبار طرق لمراقبة الأجسام الفضائية الأخرى، مثل الأقمار الاصطناعية، بما في ذلك الأقمار الاصطناعية التابعة لدول أخرى، والحطام الفضائي. وهذا البرنامج وفقاً لـ«ناسا» يصب في مصلحة الجميع، «لضمان عمليات آمنة ومستقرة ومأمونة في الفضاء لجميع المستخدمين». ومن المُعتقد أن البرنامج يسعى أيضاً للحصول على معلومات استخباراتية عن الأقمار الاصطناعية الصينية وغيرها من الأقمار الاصطناعية المنافسة.
عمالقة الفضاء الثلاثة
منذ نهاية الحرب الباردة احتفظت الولايات المتحدة بلا منازع حتى الآن بالريادة التي حققتها في السباق نحو الفضاء من خلال رحلات «أبولو» على سطح القمر، والبعثات إلى المريخ، والمسبارات التي أطلقتها إلى أقصى النظام الشمسي.
وحافظت روسيا على برنامجها الخاص، بما في ذلك شراكتها مع الولايات المتحدة في محطة الفضاء الدولية، لكنها نادراً ما فتحت آفاقاً جديدة. والتهديد الأكبر الذي تشكله روسيا من حين لآخر هو أنها ربما تفكر في إرسال أسلحة نووية إلى الفضاء في انتهاك لمعاهدة عام 1967.
ومن ناحية أخرى، بدأت الصين اشتراكها في السباق في عام 2003 عندما أصبحت الدولة الثالثة التي ترسل رجلاً إلى المدار، وكان الأمر الأكثر دراماتيكية هو القرار الذي اتخذته عام 2007 باختبار صاروخ بعيد المدى عن طريق تفجير قمر اصطناعي زائد عن الحاجة في الفضاء دون سابق إنذار، الأمر الذي أثار غضباً دولياً وخلق ما لايزال حتى يومنا هذا أكبر حقل للحطام في الفضاء. ومنذ ذلك الحين، صعّدت الصين من وتيرة تحركاتها الفضائية، وقررت مواجهة أميركا في المكان الأكثر إيلاماً؛ على القمر، الذي ترى أنه ملك لها، حيث تعهدت الصين بإنشاء قاعدة على سطح القمر بحلول عام 2035، وأذهلت منافسيها، وأثارت حماسة علماء العالم، ليس من خلال هبوط سلسلة من المسبارات الصينية غير المأهولة فقط، ولكن أيضاً إعادة إمدادات جديدة من صخور القمر وغباره، بما في ذلك أخيراً ارتياد الجانب البعيد من القمر.
وقد تأكد أخيراً أن عينة من الصخور جلبتها من خلال مهمتها لعام 2020 تحتوي على جزيئات الماء، وهي مهمة ليس فقط من الناحية العلمية، ولكن أيضاً من الناحية الاستراتيجية. سيكون وجود المياه القابلة للاستخراج مفيداً لأي محطة قمرية، خصوصاً إذا تم استخدام القمر كمنصة إطلاق أو محطة طريق لمهمة مستقبلية إلى المريخ.
استعداد وفشل أميركي
وفي الوقت نفسه ووسط كل الفوضى والجدل الذي شهدته سنواته في البيت الأبيض، فقد تعهد الرئيس السابق دونالد ترامب خلال ولايته بمواصلة برنامج القمر خلال أحد تعهداته الشهيرة «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، على الرغم من أن الوقت لم يكن ليسعفه. ومن المفترض الآن أن يحقق برنامج «أرتميس» ذلك في عام 2026. وعلى الرغم من تأجيل المهمة مرة أخرى، فقد مضت إدارة الرئيس جو بايدن قدماً في التخطيط لها، حيث يتضمن هذا البرنامج شراكة فريدة من نوعها بين القطاعين العام والخاص. ويتم الآن توفير صواريخ الإطلاق، بما في ذلك الصواريخ المخصصة للمكوك «إكس 37-بي»، بواسطة برنامج «سبيس إكس» التابع لشركة رجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك. ومع ذلك فقد فشل أحد المسبارين القمريين في الهبوط، وانقلب الآخر أثناء هبوطه.
ويقدم القمر على الأقل في الوقت الحاضر مستقبلاً أكثر سلمية للتنافس الصيني الأميركي مقارنة بالتأثيرات المدمرة المحتملة للتدمير المتبادل المؤكد لأقمار الاتصالات العالمية. وتستبعد معاهدة 1967 التي وقع عليها البلدان عسكرة القمر، ومع ذلك لاتزال المنافسة قائمة لإنشاء قاعدة على سطح القمر واستخراج المياه، وقد يتحول ذلك إلى أمر سيئ، نظراً لأن كلا الجانبين سيرغبان بكل تأكيد في العمل في منطقة مماثلة بالقرب من المنطقة الغنية بالمياه.
وقال رئيس وكالة الفضاء الأميركية، بيل نيلسون، في جلسة استماع بالكونغرس في وقت سابق من هذا العام: «ما يقلقني هو أن الصين وصلت إلى هناك أولاً وقالت فجأة: حسناً، هذه أراضينا ابقوا بعيداً».
ونتيجة لذلك تسقط الآن ستارة حديدية فوق الفضاء، فقد دعمت الولايات المتحدة برنامج «أرتميس» من خلال «اتفاقيات أرتميس»، وهي مجموعة جديدة من القواعد لاستكشاف القمر والمعلومات. ورفضت الصين التي لديها بالفعل محطة فضائية منافسة لها «تيانغونغ» أو «سكاي بالاس»، الاشتراك في المعاهدة، قائلة إنها محاولة من جانب الولايات المتحدة لفرض الهيمنة على الفضاء كما فعلت على الأرض. وفي حين أن 40 دولة، بما في ذلك الشركاء التقليديون للمملكة المتحدة والولايات المتحدة في الفضاء وعلى الأرض، أصبحت أعضاء الآن، فقد انضمت دول أخرى إلى محطة أبحاث القمر الدولية المخطط لها في الصين.
وهذه الدول تشمل روسيا التي تشعر الآن بالسعادة للعب دور ثانوي بعد بكين حتى في الفضاء، وجنوب إفريقيا، وبيلاروسيا، وباكستان. وأحدث إضافة هي منظمة الأبحاث التي تتخذ من المجر مقراً لها، ودولة الاستضافة عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي، لكنها حالياً على خلاف مع كليهما.
العلاقة بين الولايات المتحدة والصين ليست عدائية تماماً، إذ تجتمعان أحياناً لمناقشة بروتوكولات الفضاء العالمية. وعلاوة على ذلك، لا يعتقد جميع المراقبين أن التنافس بين الجانبين خطير بطبيعته. ويقول عالم الفضاء الذي عمل مستشاراً لترامب ومنسق الاتصال بوكالة «ناسا» جريج أوتري، ومؤلف كتاب «كيف ستهزم أميركا الصين في الفضاء»: «أعتقد أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين أمر جيد». ويواصل تعليقه: «لقد انتقل سباق الفضاء الأول من كرة فضية صغيرة (سبوتنيك) إلى رجال يمشون على القمر، وهو رمز للحداثة التي استمرت 50 عاماً. الآن أصبحت الولايات المتحدة في وضع لا يمكنها فيه إطلاق عملية فضائية واحدة، وهذا ما يحدث في غياب المنافسة». عن صحيفة «التايمز» اللندنية
• قال رئيس وكالة الفضاء الأميركية بيل نيلسون في جلسة استماع بالكونغرس في وقت سابق من هذا العام: «ما يقلقني هو أن الصين وصلت إلى هناك أولاً، وقالت فجأة: حسناً، هذه أراضينا ابقوا بعيداً».
• صعّدت الصين من وتيرة تحركاتها الفضائية، وقررت مواجهة أميركا في المكان الأكثر إيلاماً؛ على القمر، الذي تعتقد أنه ملك لها.
الصين أول دولة تستكشف جانباً بعيداً من القمر
وصلت الصين إلى الجانب البعيد من القمر، وأصبحت الدولة الوحيدة التي حققت هذا الإنجاز عندما هبطت مركبتها «تشانغ-4» في 2019 على الجانب البعيد من القمر. وكان الهبوط محفوفاً بالمخاطر، حيث يصعب التواصل مع المركبة الفضائية بعد أن تصل إلى هناك. وهبطت المركبة «تشانغ–6» مرة أخرى على الجانب البعيد الغامض من القمر في يونيو هذا العام في منخفض أبولو كريتر، داخل حوض القطب الجنوبي آيتكين، في الساعة 6:23 صباحاً بتوقيت بكين، يوم الأحد الثاني من يونيو. وأعلنت وكالة الفضاء الصينية أن المسبار «هبط بنجاح في المنطقة المحددة مسبقاً». وهبطت المركبة غير المأهولة على حوض آيتكين بالقطب الجنوبي للقمر، وكانت المركبة قد انطلقت في اليوم الثالث من مايو بهدف جمع أحجار ثمينة وعيّنات تراب من المنطقة للمرة الأولى في التاريخ، واستطاعت المركبة استخراج عينات من أقدم الأحجار من حفرة في القطب الجنوبي.
يذكر أن جميع المهام القمرية التي وصلت إلى سطح القمر قبل «تشانغ–4» استهدفت الجانب القريب من القمر، ويرجع ذلك إلى سهولة استكشاف تلك المنطقة، فمن الصعب التواصل مع الروبوتات التي تعمل على الجانب البعيد. ويتطلب القيام بذلك عموماً مركبات مدارية خاصة للتواصل، والتي أطلقتها الصين قبل إطلاق كل من «تشانغ-4 و6». وقال مسؤولون في وكالة الفضاء الصينية إن أحدث قمر اصطناعي صيني للتواصل هو الذي ساعد على هبوط المركبتين.
«أرتميس».. برنامج أميركي فضائي طموح
من خلال مهمات «أرتميس»، ستقوم «ناسا» بإنزال أول امرأة وأول شخص ملون على سطح القمر، وذلك باستخدام تقنيات مبتكرة لاستكشاف المزيد من سطح القمر أكثر من أي وقت مضى. وسيتعاون البرنامج مع شركاء تجاريين ودوليين ويؤسس أول وجود طويل الأمد على القمر، وبعد ذلك سيستخدم خبرته التي استقاها من على سطح القمر وحوله للقيام بالقفزة العملاقة التالية: إرسال رواد الفضاء الأوائل إلى المريخ.
وقبل أشهر قليلة أجلت وكالة «ناسا» مهمتي «أرتميس» التاليتين، بما في ذلك أول هبوط فني مأهول على سطح القمر، لمدة عام تقريباً، لمعالجة المشكلات التي قد تؤثر على سلامة رواد الفضاء على متنها.
ويقول بيل نيلسون في بيان للوكالة: «إن سلامة رواد الفضاء لدينا هي الأولوية القصوى بينما نستعد لمهام أرتميس المستقبلية». كما تمنح التأخيرات شركاء «ناسا» التجاريين مزيداً من الوقت لإكمال مساهماتهم في المهمة.
ويقول المدير المساعد لـ«ناسا»، جيم فري: «يجب أن نكون واقعيين.. نحن ننظر إلى التقدم الذي أحرزناه في المركبة الفضائية وحاجتنا إلى نقل الوقود الدافع، والحاجة إلى عمليات هبوط عديدة»، مضيفاً: «ستحصل شركة سبيس آكسيوم أيضاً على مزيد من الوقت للانتهاء من تصميم البدلات الفضائية التي سيرتديها رواد الفضاء».