ألمانيا استعبدت جيلاً من الأطفـــــــال
لطالما كانت ألمانيا أحد أكثر الأمثلة رعباً في الإساءة للأطفال والشباب على نطاق واسع خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد 60 عاماً على بدء حبس أول المراهقين وإساءة معاملتهم في المنازل التي من المفروض أنها للرعاية، وافقت الحكومة الألمانية على تقديم تعويضات بقيمة 120 مليون يورو للضحايا، الذين كانوا من ضمن 800 ألف طفل كانوا يعيشون في بيوت الرعاية الالمانية خلال فترة الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي.
ولم تكن المؤسسات التي ظلت تمارس معاملة سيئة للأطفال، كالضرب والحبس في غرف منفردة والاعتداء الجنسي والعمل الاجباري، مراكز لاعتقال الشباب أو سجوناً كما يتوقع البعض، وإنما هي منازل تديرها الراهبات والكهنة في الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية في ألمانيا الغربية، إضافة إلى تلك التي تديرها الدولة.
وأعلنت انتي فولمار، وهي سياسية من حزب الخضر ورئيسة سابقة للبرلمان الالماني، إنشاء صندوق التعويضات في الأسبوع الماضي، بعد عامين من النقاشات والجدالات مع الضحايا والسياسيين وقادة الكنائس، في محاولة لتقديم «شكل من العدل» بأثر رجعي للضحايا الذين تعرضوا للمتاعب. وقالت فولمار إنه عن طريق إنشاء الصندوق «تعترف ألمانيا أخيراً بالمعاناة التي تعرض لها الضحايا»، والتي ارتكبتها دولة كانت في ذلك الوقت تمتلك «نظام قضاء غير ناضج»، كما أنها كانت لاتزال تحاول أن تنفض عن نفسها «غبار الحكم النازي المستبد».
وخلصت مجلة «ديرشبيغل» التي نشرت قصة الضحايا الذين عاشوا في منازل الرعاية في المانيا، في جميع انحاء الدولة، عام ،2003 إلى أن المعاملة السيئة التي تعرض لها الضحايا كانت منظمة، وكتبت أنه «في الفترة ما بين عام 1945 إلى 1970 استمرت اأسوأ الممارسات التربوية النازية منتشرة في منازل الرعاية».
إذلال
تضمنت تلك الممارسات النازية الضرب لأسباب واهية وأخطاء بسيطة، مثل المبالغة في استخدام الصابون، أو إدخال الاصبع في الانف، والحبس في غرف منفردة لمن يتجرأ على دندنة أي لحن. وأحد الضحايا، الذي رفض الكشف عن اسمه، يتذكر في مقابلة إذاعية هذا الاسبوع قال فيها إن العقوبة المعيارية لبيوت الرعاية للتحدث اثناء الليل كانت الوقوف عارياً في الرواق غير المدفأ حتى تحترق شمعة تم اشعالها حديثا، وقال«هذا يعني الوقوف طيلة الليل».
أما عمل السخرة الاجباري فقد تألف من حفر الخنادق وقطع الاعشاب، والتأجير لشركات البناء الاخرى لتكسير الحجارة. وبالنسبة للفتيات في سن المراهقة، فقد كان عمل السخرة المفضل ينفذ في ساعات طويلة من اعمال الغسل والكي. وتم ارسال الينور فليث، وهي الآن في الستينات من العمر، إلى احد منازل الرعاية التي تديرها الكنيسة، وقالت إنها تأذت من ممارستها عمل المنزل الفارغ على الصعيد الذهني. وقالت «أعرف الآن من سجل منزلي انه تم تأجيري إلى شركة تعمل في البناء».
وأضافت «لاأزال اعاني الهجمات السيئة للخوف من المناطق المغلقة. واسوأ هذه الاشياء هو الشعور بالعجز».
ومن ضمن آلاف الحالات، كان يتم إرسال فتيات في سن المراهقة لفترات طويلة إلى الحبس في منازل الرعاية، لأنهن ارتكبن مخالفات يمكن التغاضي عنها بسهولة في ايامناً هذه، باعتبارها جزءاً من النمو في السن.
وكان الخجل والخوف من المزيد من التمييز يعني ان رفاق منازل الرعاية الالمانية السابقين في الخمسينات والستينات ظلوا صامتين على إساءة المعاملة التي تعرضوا لها عقوداً عدة. ولكنهم عندما اقتربوا من منازلهم السابقة للوقوف على ما تعرضوا له، تم رميهم بالحجارة وطلب منهم المغادرة. بيد أن عدداً قليلاً منهم تم تشجيعهم لمواصلة التقدم والتحدث عن قصصهم عام ،2002 بعد نشر فيلم «شقيقات ماغدلين» للمخرج البريطاني بيتر مولان، الذي يكشف عن مصيبة الفتيات المفترض انهن «ساقطات» واللواتي تم حبسهن في منازل رعاية تديرها الكنيسة الكاثوليكية، في ايرلندا في ستينات القرن الماضي.
اعتذار
وبدأ الصحافي بيتر فينسيريسكي الذي يكتب في مجلة «ديرشبيغل»، إصدار قصص ضحايا التعذيب في عام .2003 وقال «لم استوعب ذلك في حينه، ولكن ذلك لم يكن سوى قمة جبل الجليد»، وظهرت آلاف القصص الاخرى، الامر الذي اجبر الحكومة الالمانية على الانتباه لذلك.
وفي الاسبوع الماضي، جاء اتفاق التعويضات إثر الاعتذار العميق الذي قدمته الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية لدورها في ادارة بيوت الرعاية في الخمسينات والستينات والسبعينات.
وقال رئيس الكنيسة الكاثوليكية الالمانية الاسقف روبرت زولتيتش انه يعتذر بشدة عما وقع من ظلم على هؤلاء الاشخاص.
واضاف «من اعماق قلبي ارجو من اولئك الضحايا ان يصفحوا عن تلك الاحداث»، ولكن الاحساس بالظلم الذي كان يشعر به ضحايا بيوت الرعايا ظل متأججا لأكثر من نصف قرن من الزمان.
وفي الاسبوع الماضي قالت احدى الجماعات الرئيسة التي تضم ضحايا بيوت الرعايا والتي يطلق عليها اسم «اتحاد بيت الاطفال السابقين» إن تأسيس الصندوق غير كاف لتعويض الضحايا. ووصفت رئيس الاتحاد مونيكا تشابيك غانتر، وهي ضحية، الشروط التي بموجبها يقدم الصندوق تعويضاته التي تبلغ نحو 2500 يورو لكل ضحية، بانه امر مهين. وقالت ان جماعتها ستتحدى شروط الصندوق في المحكمة.
أشغال شاقة
تتذكر جيزيلا نورثن عندما كان يتم حبسها في زنزانة منفردة وهي في سن الخامسة عشرة، لأنها ارتكبت خطأ تمثل في دندنة أغنية لالفيس بريسلي. وظلت تعمل عامين لمدة 10 ساعات يومياً في ترتيب وكي الشراشف. ولم تحصل على اي اجر. وهي تقول «كنا نعمل كالعبيد بلا أجر»، وتضيف نورثن التي أصبحت الآن في منتصف الستينات من العمر «اعطوا كل واحد منا رقماً، ولم يسمح لنا بالتحرك، إلا كل اثنين معاً، إلى الكنيسة، أو إلى الحمامات أو إلى تناول الطعام». وامضت نورثن عامين في منزل رعاية تديره كنيسة كاثوليكية في دورتموند خلال الستينات من القرن الماضي. وتقول إن «الاشخاص الذين اشرفوا على منازل الرعاية هذه، والأوامر الدينية، وسلطة قضاء الاحداث في ألمانيا، والكنائس، جميع هؤلاء مدينون لنا بشرح كل ما حدث». وتم إرسال نورثن إلى منزل تديره منظمة الاخوات الخيرية، لانها ارتكبت جريمة هي تأخرها في إحدى الليالي في العودة إلى المنزل. وقبضت عليها الشرطة صباح اليوم التالي، وهي تحاول إيقاف أي سيارة عابرة كي تعود إلى امها التي تعيش وحيدة. وأبلغت أمها السلطات المحلية، وبعد مرور 24 ساعة ارسلتها محكمة أحداث إلى بيوت الرعاية، بعد أن قضت بأنها في «خطر ارتكاب المزيد من الأخطاء». وهي تتذكر كيف تم نقلها إلى الغرفة من قبل إحدى الراهبات، وطلبت منها أن ترتدي اللباس الرسمي للمنزل. وكان أقل فعل ترتكبه يعود عليها بالضرب والعقوبات العديدة من الراهبات، وقالت «تمت مراقبتنا في كل دقيقة. وعندما كنا نخلع ملابسنا في الليل كانت الراهبات يحدقن فينا بصورة مخجلة، ويتحققن من أننا نظفنا مناطق معينة من أجسامنا». وقبل سبع سنوات، حاولت نورثن مع 30 شخصاً من رفاق منازل الرعاية، الحصول على وثائق الكنيسة المتعلقة بالزمن الذي امضوه في تلك المنازل، كي يكشفوا عن هذه الفضيحة والحصول على اية تعويضات. ولكن السلطات المدنية ردت عليها بالقول إن جميع الوثائق المتعلقة بتلك الفترة إما انها فقدت أو اتلفت. واتصلت بإدارة منظمات الاخوات الخيرية، التي كانت تدير المنزل الذي كانت تقيم فيه فكان الرد «ليس لدينا اية وثائق، كما ان اخواتنا اللواتي كن في المنزل في ذلك الزمن يفضلن ان يتركن بسلام. ونحن لا نريد توريطهن في جدالات من هذا النوع». وأدى نشر قصة نورثن إلى اجبار البرلمان الالماني على مراجعة الموضوع، الامر الذي نجم عنه الاسبوع الماضي الموافقة على تقديم تعويضات لضحايا منازل الرعاية. |