المرصد
«التصحيحات وترامب وستائر نيكي هالي»
لم تعد «صفحة التصحيحات» بأي جريدة في الصحافة العالمية اليوم مساحة لنشر الأخطاء الإملائية أو الهفوات اللفظية فحسب، وإنما هي مكان لإنتاج صحافي جديد، يتم فيه تدقيق المعلومة والصورة والخريطة، قبل أن تتحول من القراءة إلى التوثيق، ويشترك فيها - بلا حرج - الصحافي والمصدر والقارئ وكل من له علاقة بالمعلومة.
والمطالع لأسبوع واحد من تصحيحات صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، في سبتمبر الجاري على سبيل المثال، سيكتشف حجم التنوع الذي شملته صفحة التصحيحات في هذه الفترة، من معلومة عن جنسية «آنابوليتكوفسكايا»، إلى تعليق صورة وردها من وكالة عن الممثلة «ماري بلفورد»، إلى حرف سقط في «مراجعة كتاب»، فحوّل الجمع إلى مفرد وأشباح إلى شبح، إلى معلومة وردت خطأ في مقال رأي عن استعارة الكتب في ليبريا، وصولاً إلى خطأ آخر عن مجرى نهر في كندا.. وهكذا.
على أن أجرأ وأكثر التصحيحات احتراماً في الفترة الأخيرة، بحسب المراقبين، هو ما نشرته «نيويورك تايمز» في صيغة أقرب إلى الاعتذار الضمني عن موضوع نشرته بشأن كلفة الستائر في مكاتب وزارة الخارجية الأميركية، فالتصحيح لم يتعلق بصحة المعلومات أو الأرقام التي تضمنها الموضوع، وإنما بالإشارة إلى أن الموجودة في المكتب حالياً، المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هالي، لا علاقة لها من قريب أو بعيد بشراء الستائر، وأن نشر صورة «نيكي» مع الموضوع يعطي انطباعاً خاطئاً للقارئ، دون أن تقصد الصحيفة، عن مسؤوليتها عن هذا الهدر المالي.
بلغة قيادة السيارات، فإن تصحيحات الصحيفة لم تعد في وقتنا، الذي أصبحت سمته «الطمر المعلوماتي» و«السرعة»، مسؤولة عن أخطائها فحسب، بل مسؤولة أيضاً عن «أخطاء الغير»، عن تعليق صورة وردت من وكالة أنباء كبيرة، سيغفر لها القارئ الذي لا يتعامل معها مباشرة، لكن لن يغفر للصحيفة معلومة «مضروبة»، قالها مصدر سلم المحرر له قلمه ورقبته في حوار خاص، عن إشارة وردت في كتاب لباحث متعجل أو خريطة، نسي صاحبها تحديثها، فانقلبت إلى «بردية».
لهذه الأسباب تحولت «صفحة التصحيحات» إلى مادة تدرس في فصول الصحافة، ولم يعد غريباً أن تصدر مؤسسة معنية بصناعة الصحافة، مثل «بوينتر»، دليلاً صحافياً يضم أهم التصحيحات في كبريات الصحف العالمية، كـ«تايمز»، و«واشنطن بوست»، و«الغارديان»، ليقرأها الصحافيون ويتابعوها، ولم تعد مصادفة أن تتبارى مؤسسات شبيهة في إبراز أهم 10 تصحيحات، وأهم 100 تصحيح، بهدف المقارنة.
وهنا ينبغي الإشارة إلى أن قصة «التصحيحات» اكتسبت أهمية إضافية بعد أن اعتبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن الصحافة بكاملها «كاذبة»، واقتنص مرة فرصة خطأ للصحافي ديفيد ويغل، الذي نشر صورة لميدان خال، قال إن الرئيس الأميركي سيزوره، وهنا كان أمام «واشنطن بوست» الخيار، إما أن تدير «تصحيحاً ناجحاً»، أو «تخسر المعركة».
الصحافة العربية في معظمها بعيدة حتى اليوم بشكل فعلي عن «صنعة التصحيحات»، وبطبيعة الحال عن «صناعتها» بالمعنى الأوسع، لأن البعض في الصحافة العربية يعتقد أنها «ضد البرستيج»، والبعض الآخر يظن أنها «تقلل من الصدقية»، لكن كل هذه التصورات أوهام قديمة، يتشبث بها من لايزالون يعيشون في كهوف سحيقة، وحتماً ستتبدد بفعل زحف الوسائط المتعددة والمواطن الصحافي.. من يدري، ربما تكون فرصة ذهبية لصحافة تشاركية، تكون أكثر قوة وصلابة في تعزيز الحقيقة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news