قوارب الموت.. مآسٍ دون نهاية
قبل 30 عاماً، وبالتحديد في الأول من نوفمبر، عام 1988، حملت أمواج البحر إلى شاطئ «تاريفا» بإسبانيا جثة أول مهاجر مغربي إلى أوروبا يموت غرقاً في عرض البحر، كانت الجثة ملقاة على ظهرها، ولم يدرك العالم آنذاك أن هذا هو أول شخص لأكثر من 6700 مهاجر يلقون حتفهم غرقاً في البحر حتى الآن.
ظل هذا التاريخ يقض مضجع الصحافي، الديفونسو سينا، الذي التقط 10 صور للمشهد باستخدام كاميرا «نيكون» مدمجة، وكانت تلك الصور كفيلة بإرسال موجات صدمة عبر أوروبا. ومن دون قصد خلد هذا الصحافي أول وفاة لمهاجر في مضيق جبل طارق. ويقول سينا في تصريحات صحافية: «لم أكن أتوقع حجم الوفيات الهائل، الذي تلا ظهور تلك الجثة»، إذ أعقب ذلك العثور على جثتين في اليوم التالي، واثنتين أخريين في 3 نوفمبر، وأخرى في سبتة. كان هناك ما مجموعه 11 شخصاً لقوا حتفهم. ويقول المدير السابق لمكتب الهجرة في كاديز وسبتة، غابرييل دلغادو: «لا توجد أي علامة على توقف الوفيات في البحر منذ عام 1993».
سكان «تاريفا» يعرفون أنه عندما تكون الرياح هادئة، أو تهب من الغرب برفق، فإن هناك قوارب ستصل إلى الشاطئ. وإذا كانت هناك عاصفة شرقية فجائية، فسيكون هناك المزيد من الوفيات في البحر. يقول عمدة المدينة، فرانسيسكو رويز: «لدينا 30 عاماً من الخبرة، لقد عشت مع هذا الوضع لسنوات عدة، واعتدت ذلك». ويمضي قائلاً «علينا توفير المأوى، لكن يجب ألا ننسى الأموات أيضاً».
حكمة غير مكتوبة
هذه هي الحكمة غير المكتوبة لبلدة ملتزمة بالتضامن دون ثمن مع المهاجرين، حيث يقضى 100 أو نحو ذلك من السكان المحليين صيفهم وهم يساعدون المهاجرين، وصاروا خبراء بشكل متزايد بشأن وصول جثث مهاجري شمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء إلى شواطئهم.
لم يكن الأمر على هذا النحو في ثمانينات القرن العشرين، عندما لم تكن لدى المدينة أي فكرة عن نطاق المشكلة. ويقول العمدة «لا يمكننا أن نتخيل أن ذلك سيؤدي إلى ما أصبح الأمر عليه اليوم». ويعلق سينا على ذلك بقوله: «لقد تم الكشف عن ظاهرة الهجرة في القوارب بشكل تدريجي بين عامي 1982 و1983، وبدأت القوارب في الوصول إلى شواطئنا، واعتقدت الشرطة في البداية أنهم كانوا يجلبون المخدرات، وفي وقت لاحق تكرر ذلك بشكل أكبر، لكن لم يعطه أحدٌ أيَّ أهمية حتى الأول من نوفمبر 1988».
كان ذلك هو اليوم الذي أخبر فيه أحد ضباط الشرطة هذا الصحافي بأن يذهب إلى شاطئ لوس لانسيس، حيث ظهرت جثة مهاجر هناك. ويتذكر سينا المشهد عندما وصل إلى هناك، قائلاً: «كانت الرياح حارة، ووجدت الشاب الميت ملقى على بعد مترين من القارب، كان يبلغ من العمر 25 عاماً، ومغطى بملح البحر». وعندما بدأ سينا في التقاط الصور، اقترب منه ضابط وسأله عما إذا كان يمكنه أن يترجم من الفرنسية حديث أربعة مغاربة ناجين. يقول: «أخبروني بأن 23 منهم أبحروا عند الساعة الـ12 من شاطئ في طنجة. وفي منتصف الطريق فوجئوا برياح شرقية قوية جداً، وعلى الرغم من اقترابهم من الساحل انقلبت بهم السفينة». ويختتم سينا حديثه: «هذا ما قاله لي الرجل، الذي يبلغ حالياً 67 عاماً، والذي تقاعد الآن».
جثث المهاجرين الـ11، التي تم العثور عليها في الأيام التالية، لم يكن لها أسماء أو انتماء أو عائلة معروفة، وهو نمط أصبح مألوفاً للغاية. تم نقل جثثهم من المشرحة إلى مقبرة مشتركة في «تاريفا»، والتي تميزها لوحة تحمل عبارات بسيطة: «في ذكرى المهاجرين، الذين ماتوا في مضيق جبل طارق».
دلغادو لديه 25 عاماً من التجارب المريرة مع المهاجرين، الذين تمكنوا من بلوغ غايتهم، وآخرين واراهم الثرى، وشهدت المدينة آثاراً دموية على شواطئها، وأطفالاً قضوا على مياهها، مثل صامويل، الذي عُثر عليه بداية عام 2017، في بارباتي.
في كل ثاني أربعاء من كل شهر، ينظم دلغادو اجتماعات يطلق عليها «دوائر الصمت» في مدينتي سبتة وكاديز. ويقول في أحد هذه الاجتماعات بنبرة حادة: «لا نريد أن يقع أي شخص في هذه المأساة، فقد انتقلنا الآن من عولمة اللامبالاة إلى عولمة الرفض».
• سكان «تاريفا» يعرفون أنه عندما تكون الرياح هادئة، أو تهب من الغرب برفق، فإن هناك قوارب ستصل إلى الشاطئ.