«داعش» والإعلام
تكشف الشهادات المتتالية أن من أخطر الأشياء، التي مكنت تنظيم «داعش» الإرهابي من الظهور والاستمرار لفترة، هو نجاحه في التفوق الإعلامي بشكل غير عادي، عبر تملكه أشياء كثيرة أبرزها خاصيتان رئيستان، هما: السيطرة على تكنولوجيا متقدمة جداً مقارنة بالإمكانات الموجودة في الشرق، وامتلاكه أعداداً ضخمة من الكوادر التي تتقن الإنجليزية بطلاقة.
ويكشف تقرير لـ«نيويورك تايمز»، نشرته الأسبوع الماضي، عن أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي ظل - على مدى أربع سنوات - مشغولاً بتحديد هوية المذيع، الذي قبع خلف الكادر، وأذاع الأحداث بصوته فقط في فيديو ظهر فيه جنود سوريون، يحفرون قبورهم بأياديهم قبل قتلهم، وكانت لهجته أميركية شمالية، وقد ظل الأمر سراً حتى وقع ذلك المذيع أسيراً في يد السوريين الشهر الماضي، ليعترف بأنه صاحب فيديو (ألسنة نيران الحرب)، وفيديو قتل الصحافي الأميركي جيمس فولي، وفيديو حرق الطيار الأردني، ومتبجحاً بأنه غير نادم، لأنه مجرد موظف في وزارة إعلام «داعش»، بحسب تايمز.
لقد عبرت ظاهرة «داعش» عن حصيلة من المفاجآت، لكن تملك التنظيم لهذا الإعلام العصري، وهو تنظيم القرون الوسطى بحسب التوصيفات الغربية، كان «أم المفاجآت»، إذ اخترق «داعش» بحسب تايمز، أكثر من 50 دولة أوروبية وأجنبية، وأوصل رسالته التكفيرية لشرائح شبابية غربية، بعضهم جذوره عربية أو إسلامية والآخر جذوره أوروبية، وأقنع نساءهم وأسرهم بالعيش معهم وسط جحيم الإرهاب، كأنهم يصحبونهم لنزهة في جزر المالديف، رغم احتوائية المجتمع الغربي بعوالمه الرحبة وإمكاناته غير متناهية لشبابه ومواطنيه.
وطبقاً لدراسة أعدها الباحث المصري صبرة القاسمي، وهو جهادي سابق تخلي عن تطرفه، فإن «داعش» ليس تنظيماً عادياً شبيهاً بما سبقه، أو حتى قريباً منهم، خصوصاً في مجال الإعلام، فقد كان التنظيم يمتلك سبع أذرع إعلامية، هي: أجناد، والفرقان، والاعتصام، والحياة، ومكاتب الولايات، وإذاعة البيان، ومجلة دابق، وهي أذرع كانت تذيع أو تبث خطابها الإعلامي بأكثر من 12 لغة، كما أنه يملك - علاوة على هذا - 90 ألف صفحة على مواقع الاتصال الاجتماعي، إضافة إلى أنه رصد من ميزانياته الفلكية مبلغ ثلاثة مليارات دولار للإنفاق على الإعلام، وتمويل هذه القنوات من بينها الملايين لشراء أحدث الكاميرات وأدق أجهزة التسجيل، وأن استوديو أجناد فقط كلف مليون دولار، كما كلفت قناة الفرقان 200 مليون، والاعتصام 500 مليون دولار، وشبكة عالمية من مئات المتطوعين في تونس والسودان وبريطانيا وألمانيا والجزائر ونيجيريا والصومال وتشاد.
أما دراسة «مرصد الأزهر لمكافحة التطرف»، فقد رصدت - في دراستها المعنونة: «هل ترنحت الآلة الإعلامية لداعش» - جانباً في إمكانات «داعش» الإرهابي، غير تملّكه للتكنولوجيا واللغة اللتين أشارت إليهما «تايمز»، أو القنوات والشبكات التي أشار إليهما صبرة، وهو انتهاج «داعش» طريقاً مختلفاً في التسويق الإعلامي، وهو صنع «صورة ذهنية» معينة، والإلحاح عليها، وهو جانب يعتبره الإعلاميون مهماً جداً.
فقد اختار «داعش» منذ لحظته الأولى شخصية مميزة، تميزت بالقتل بطريقة معينة (قطع الرؤوس)، ورفع الأعلام السوداء، وإلباس السجناء أو الأسري الرداء البرتقالي، وهي صورة ذهنية بقدر ما كان خصومه يلتقطونها لفضح وحشيته وبشاعته، بقدر ما كان يعتبر هذا هدفاً يحقق له عنصري «الجذب والإرهاب أو التخويف».
لقد انتهت تجربة «داعش» ككيان ودولة، لكن مواجهته كفكر تحتاج إلى إعلام متخصص متعدد اللغات، مواكب لعصره وتغيراته، مدرك أنه بصدد مواجهة تنظيم يمثل عولمة التطرف.