دروس من «نيويورك تايمز»
القاعدة في الإعلام أن الصحف هي التي تغطي الخبر، لكن «الوفرة الديمقراطية» قلبت الآية، فأصبحت الصحف ومجلس تحريرها وما يدور فيها هي الخبر.. هذا ما حدث في «نيويورك تايمز» أخيراً.
فقد عنونت الصحيفة الأميركية - الأكثر شهرة ربما - على خطاب الرئيس دونالد ترامب، الذي علق فيه على حادثي إطلاق النار الإرهابيين في تكساس ودايتون، اللذين راح ضحيتهما 31 قتيلاً - بمانشيت «ترامب يدعو إلى الوحدة في مواجهة العنصرية»، لكن جمهور الصحيفة الذي لا يطيق ترامب، والرأي العام الأوسع المعارض لسياساته، أقام الدنيا ولم يقعدها في وجه «تايمز»، رفضاً للمانشيت، حتى اضطرت الصحيفة الليبرالية إلى تغييره ليصبح «هجوم على خطاب الكراهية وليس على البنادق»، باعتبار أن ذلك أكثر دقة في التعبير عن المتن.
المانشيت في حقيقة الأمر لم يكن خطأ، فقد قال ترامب في مطلع خطابه وبالحرف الواحد: «يجب على أمتنا بصوت واحد أن تدين العنصرية والكراهية، وادعاء التفوق الأبيض»، لكن ما قاله هذا مجرد سطر واحد في مطلع الخطبة، و«المانشيتات لا تعنون على مجرد سطر»: قاعدة في أول مفتتح بكتاب الصحافة.
كانت حجة الرافضين لمانشيت «نيويورك تايمز»، الذين وصل الشطط ببعضهم إلى إلغاء اشتراكه السنوي في الصحيفة، مثل المعلقة في شبكة «سي.إن.إن»، والكاتبة في مجلة «ذي نيشن» جوات وولش؛ أن المانشيت بهذا المعنى «استنتاجي»، كما أنه يقدم ترامب وهو «المتهوس»، من وجهة نظرهم، بوصفه «رجلاً يشجع الأميركيين على الاتحاد ضد العنصرية»، علاوة على أن المانشيت غير معبر عن «كل الخطاب»، فهو معبر عن فقرة واحدة قصيرة، كما سبقت الإشارة، بينما بقية الخطاب تحدث عن مسائل أخرى كثيرة لاعلاقة لها بالحادثتين، مثل الاضطرابات النفسية، والانترنت، وألعاب الفيديو، وغير ذلك.
مجلس تحرير صحيفة «نيويورك تايمز» دافع عن نفسه في هدوء ورصانة، وأصدر بيانين متتاليين، وصف فيهما المانشيت بأنه «سيئ»، وأنه «منحرف عن رسالة المتن»، كما أدلى رئيس تحرير «نيويورك تايمز» التنفيذي دين باكين بحوار لصحيفة «ديلي بيست» قال فيه إن «المانشيت كتب في اللحظة النهائية لإعداد الصحيفة، وحين مر – أي المانشيت – أمام أعين المحررين ورؤساء الأقسام أدرك الجميع أنه سيئ، لذا غيرته الصحيفة بسرعة»، وأنه – أي باكين «يتفهم القلق بشأنه، لكنه يأمل أن يقرأ الناس التغطية الصحافية القوية الموجودة تحته، والتي بذلت فيها (تايمز) جهداً جيداً».
لابد من القول هنا إن الخلفية التي تعيشها الولايات المتحدة إعلامياً، والمتمثلة في الحرب المتبادلة بين ترامب والصحافة لعبت دوراً في الأزمة، تلك الحرب التي وصلت لولادة روايات متضاربة بشأن موقف أهالي الضحايا من ترامب، ولجوء الرئيس الأميركي المحاصر صحافياً إلى ملاذه الإعلامي الآمن الوحيد «تويتر»، لكن على الرغم من تلك «الخلفية» فإن «تايمز» لم تنجر بقضها وقضيضها إلى هذا السجال بلا وعي، وظلت رغم موقفها المعارض لترامب ترسم باقتدار المسافة بين «ما لقيصر وما للحقيقة والموضوعية والمهنية»، استمعت للآراء المعارضة، أبقت المتن، غيرت العنوان، وحافظت على شيء للرجل وشيء لمعارضيه.
لقد تحولت «نيويورك تايمز»، بخطئها وتصحيحها وتفسيرها في ساعات إلى «خبر»، ثم إلى مادة نقاش مهني صحافي، وقدمت درساً إضافياً هو أن قارئها هو مراجعها وشريكها في صياغة خطها المهني والسياسي، وليس مجرد مشترٍ أو مستقبل سلبي لها، حتى لو نفذت هذا الفهم في حدود، فعلت ذلك دون أن تنقلب لصحيفة دغدغة مشاعر للقراء، أو مطبوعة صفراء تسعى لأن ترضيهم أو تجاريهم.