«هزيمة 1967 الإذاعية»
بين هزيمة 1967 وأزمة الإعلام العربي حبل سري، لا يذكر أحدهما إلا وتستدعي الذاكرة الآخر، وكأنما كانت الهزيمة إذاعية، أو كانت الإذاعة حائط صواريخ، لذا كانت شهادة المذيع السيد الغضبان التي تأخرت أكثر من نصف قرن بالغة الأهمية.
يكشف الغضبان في حواره لمنى سليمان في «أصوات أون لاين»، أن «فريق المذيعين الذي بث نشرات وتغطيات 1967 المكون من خمسة مذيعين، هم جلال معوض وأحمد سعيد وطاهر أبوزيد وفاروق خورشيد والغضبان»، كانوا معزولين عن العالم أثناء أحداث الحرب، وفي حين كانت القوات الإسرائيلية قد حسمت نتيجة المعركة لصالحها بعد أن وجهت ضربة مؤلمة للجيوش العربية، تسابق المذيعون المصريون المشار إليهم على من يذيع البيانات الوهمية عن نصر العرب المؤزر، واقتراب جحافل العرب من تل أبيب.
ويكشف الغضبان أيضاً عن تفاعل جميع المذيعين مع الواقع المؤلم الجديد، بعد دخول الإعلامي إسحق حنا عليهم وهو منهار بالبكاء يخبرهم عن الحقيقة المرة، باستثناء الإعلامي الراحل أحمد سعيد، الذي أصر على حالة الإنكار، وهي معلومة تتماشى مع تكوين وفكر أحمد سعيد الذي ظل حتى آخر لحظة في حياته مصرّاً على أن دور الإعلامي «تعبوي» و«تحشيدي» وليس نقل الحقيقة المجردة، وهي مدرسة في الإعلام توافق معظم الناس في عالم اليوم على رفضها وعدم القبول بها.
يميط الغضبان في شهادته أيضاً اللثام عن أنه كان ممثل التنظيم الطليعي في الإعلام، ذلك التنظيم السري الذي كان يحكم مصر في مختلف المواقع، ومن موقعه هذا رفض إذاعة شريط لزكريا محيي الدين يعلن فيه رفضه لتولي رئاسة مصر، بعد أن أعلن عبدالناصر تنحيه، بمنطق أن البلاد ستصبح في فراغ سياسي بين رئيس يطلب التنحي وآخر يرفض التولي، وبعدم إذاعة شريط لعبدالحكيم عامر لعدم معرفة محتواه، وبعدم إذاعة أية أغانٍ تمجد في شخص عبدالناصر لما يمكن أن يحدث ذلك من أثر عكسي والبلاد في لحظة الهزيمة، وبتحديد ساعات الإرسال الإذاعي، لأن وجود تلك الساعات الطويلة (المستمرة) في تلك اللحظة ورطة.
يشير الغضبان في شهادته إلى شيء مهم جداً، هو أن «موجة انفتاح» أو ربما نوع من النقد الذاتي المبكر، شهدتها الإذاعة المصرية بمختلف موجاتها بعد تلك المحنة كان أبرزها السماح لبرامج مصرية انتقادية التفت حولها الملايين لاحقاً، واكتسبت شعبية هائلة، مثل برنامج «كلمتين وبس»، الذي كان يقدمه الفنان الراحل فؤاد المهندس، والذي كان ينتهي بـ«لازمة» يعرفها المستمعون من أجيال تلك المرحلة وهي «مش كده ولا إيه؟»، وبرنامج «همسة عتاب»، الذي اشتهر بالموظف البيروقراطي الذي يقول لكل متعامل بمنطق أو بغير منطق «فوت علينا بكره ياسيد»، وبرنامج «بعد التحية والسلام» للشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي، بل وعن العزم على إنشاء إذاعة جديدة تحمل اسم «إذاعة الطليعة»، وهي خطوة لم ترَ النور لسبب لم يورده.
شهادة السيد الغضبان، التي احتوت علي أسرار أخرى كثيرة غير المشار إليها هنا، تمثل أهمية كبيرة إعلامياً وتاريخياً لتلك المرحلة، والأهم أنها تمثل دعوة للآخرين مازالوا على قيد الحياة لتقديم شهاداتهم، التي يمكن أن تضيف أو تشتبك مع شهادة الغضبان وقبله شهادة أحمد سعيد، شهادات هي هدية للإعلام العربي والأجيال العربية الحالية والمقبلة.