عامان على مقاومة التحرش الجنسي
تتخطى وظيفة الإعلام في عصرنا مهمة «نقل الحقيقة» وأصبحت له مهمة إضافية، وهي حماية الأفراد والجماعات، خصوصاً الأطفال والنساء، من التحرش والاعتداء الجنسي، وتعد حملة «وأنا أيضاً» التي يمر هذا الشهر عامان على انطلاقها، نموذجاً مثالياً لهذه المهمة.
فعلي الرغم من أن هذه الحملة لها طابع «ماضوي»، أي أنها تعنى بإتاحة منصة لمن تعرضوا أو تعرضن لتحرش او اعتداء جنسي، في وقت سابق من حياتهم، لرواية ما حدث والتشهير بالمتحرشين أو المغتصبين، إلا إنها تمثل في الوقت نفسه تعزيزاً لسلطة أخلاقية في الحاضر والمستقبل تجعل الموضوع حاضراً، وتشكل مستوى من الردع المعنوي.
انطلقت حملة «وأنا ايضاً» واقعياً منذ 2006 كحالة حقوقية محدودة، وجاءت العبارة عفو الخاطر عقب عرض وثائقي للناشطة تارانا بيرك يحمل الاسم نفسه عن فتاة عمرها 13 عاماً تعرضت لاعتداء جنسي، فلم تجد بيرك ما تقوله حين أعربت الفتاة عن إحساسها بالقهر سوى القول «وأنا ايضاً»، ثم حدثت النقلة حين تحولت الكلمة إلى «هاشتاغ» ضمن حملة عالمية واسعة في أكتوبر عام 2017، بعد فضيحة هارفي وينستين الجنسية التي تعرضت فيها عشرات النساء للتحرش والاعتداء من مخرج هوليوود الشهير الذي حملت الفضيحة اسمه، واستطاعت مجلة «تايم الأميركية» أن تجمع «المهنية الصحافية مع المبدئية الأخلاقية» حين تضامنت مع الحملة وأعلنت شخصية العام في المجلة من سمّتهم بـ«كاسري الصمت»، أولئك الذين اختاروا بشجاعة أن يخرجوا على الرأي العام ويروون ما حدث معهم، حتى يمنعوا تكراره مع آخرين، رغم ما سيسببه هذا لهم من حرج واسترجاع للحظات انكسار، وربما لضرائب اجتماعية باهظة في تجمعات معينة.
تجاوب الآلاف منذ الثواني الأولى لإطلاق الحملة، وتم الدخول عليها أكثر من 200 ألف مرة لحظة إطلاقها على «فيس بوك»، وتم تغريدها على «تويتر» نصف مليون مرة، كما دخل 12 مليون مستخدم عليها خلال الـ24 ساعة الأولى فقط، وأحدثت الحملة زلزالاً في الكنيسة ووسائل الإعلام، وعالم الموديلات، والجامعات، وصناعة المال، ودوائر السياسة، والرياضة، والطب، والمجندات، وتطوع مئات النساء والرجال في كل شبر من الأرض يكشفون عن مآسٍ جديدة مسكوت عنها لا تظهر علي السطح من أشخاص يظهرون في غاية الالتزام الخلقي أمام أهلهم ودوائرهم الخاصة.
وطبقاً لما ذكره موقع «فرنسا 24» في أكتوبر 2018، واعتماداً على دراسة علمية منشورة، فإن 50% من الفرنسيين يعتقدون أنها بلا جدوى أو تأثير، ولم تغير شيئاً، كما أن الصحافية بصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، دافين ميركن، كتبت أن «النساء بمن فيهن النسويات ينتقدن الحملة سراً، بينما يمتدحنها علناً»، وأن «الناس في المولات ومحال السوبر ماركت يعتبرونها نوعاً من (مطاردة الساحرات)».
كما كتبت الصحافية إيميلي أوفي أن الحملة «تفضح النساء دون أن تأتي بنتيجة»، أما الناقدة السينمائية المصرية أمل الجمل فقد كتبت مقالاً مطولاً على موقع (مصراوي) بعنوان «حملة وأنا أيضاً وجه قبيح للرقابة والمكارثية وأنا ضدها»، دعت فيه إلى التبصر وعدم التعميم، وقالت إن «هناك مرات يتحول التحرش إلى تواطؤ، بل دعوة من الضحية للمتحرش بأن يُنجز مهمته مقابل شيء ما، مقابل إنجاز ما، أو ترقٍ ما في الوظيفة أو العمل، أي عمل، مقابل الحصول على دور مهم في عمل سينمائي، أو مسرحية، أو حتى مسلسل تلفزيوني».
عموماً، فإن هذه الانتقادات على كل قساوتها وضديتها للحملة، كشفت العكس، بمعنى أن دور الإعلام في مواجهة التحرش بحاجة إلى ترشيده وإحاطته بمحاذير، وليس إلغاءه، وأن الإعلام يدفع ضريبة حداثة دخوله الميدان وتصديه للمواجهة تخبطاً واستغلالاً وتسييساً، لكنه دون شك في الاتجاه الصحيح، حتى ولو لم يكن بعد على «التراك» الصحيح.