10 سنوات علي انطلاق «الصحافة البطيئة»
هرباً من جنون الإعلام السريع، وملاحقاته التي تكاد تفجر العقل البشري، خرجت الدعوة العالمية لتبني نوع جديد من الإعلام يسمى «الصحافة البطيئة» منذ تسع سنوات، وبصمودها حتى عام 2020، تكون قد كتبت شهادة بقائها إلى حد كبير، خصوصاً أنها وصلت إلى 15 إصداراً، شملت أميركا، وهولندا، وفلنلندا، وإيطاليا، وألمانيا، وسويسرا.
قصة «الصحافة البطيئة» ليست بدعة، وليست ظاهرة انفرد بها الإعلام. فرداً على سرعة العصر المدمرة، خرجت عشرات الأشياء التي تسمي نفسها بـ«البطيئة»، توخياً للحكمة والتدبر والعمق، فهناك على سبيل المثال حركة «السينما البطيئة»، التي يتبناها مخرجون مثل بيلاتار وعباس كيار ستامي، وحركة «المدن البطيئة» التي تدعو إلى مواجهة عولمة المدن، حتى تحتفظ كل مدينة بشخصيتها وطابعها، وحركة «التعليم البطيء» الذي يتبناه العالم التربوي ليكو ديفينا، ويدعو إلى التركيز على الكيف والعمق، وليس الكيف فقط، وهكذا.
في عالم الصحافة، يبدو من النظرة الأولى أن الأمر أكثر احتياجاً لشيء من هذا النوع، فالتكذيبات التي لا تتوقف للأخبار، والحقائق المبتورة، والأرقام المغلوطة والمصححة، والعبارات المنتزعة من سياقاتها، كل هذه الأشياء تغري بالقول إن الصحافة تحتاج فعلاً إلى تهدئة سرعة.
مجلة «ديلييد جراتيفيكشن»، وترجمتها بالعربية «الإشباع المتأخر» عرّفت نفسها منذ صدورها في 2011 بأنها أول تجربة للصحافة البطيئة في العالم، وقالت إن تعريفها للأمر ملخص في قواعد بسيطة، هي أن «الوصول إلى الحقيقة أهم بالنسبة لها من السبق الصحافي»، وأن «الصحافة يمولها القارئ وليس المعلن، دفاعاً عن الصدقية»، وأن «الصحافة التقليدية تهتم ببدايات الأشياء، لكنها هي التي ستهتم بنهاياتها»، لكن المجلة، التي وصفت بقية الصحافة بـ«المحمومة»، لم تنس في ديباجتها أن تحبط متابعيها بالقول إنها «ستصدر كل ثلاثة أشهر»، حتى تأتي لنا بالخبر اليقين.
الخبير في المركز الفرنسي القومي للبحث العلمي، ايريك نيفين، قال في مقال نشرت مقاطع منه مجلة «اوت اوف ايدن ووك» إن «الصحافة البطيئة» لها خصائص ومحددات أعمق من التحديدات البسيطة، أبرزها المعنى الحرفي للبطء، حيث يتوجب على الصحافي أن يأخذ وقته لفحص الحقائق وجمع المعلومات، وأن يلتزم الصحافي بمبدأ التحقيق والتقصي، وليس إعادة التدوير والتعليق، وأن يلتزم أيضاً بالانتقائية، وفحص الغث من السمين، وأن يكتب الصحافي باستفاضة حتى يقدم المادة بعمق، على ألا تكون اللغة تكرارية، وأن يحاسب الصحافي نفسه ومدى محاذاته لمبدأي الإنصاف والشفافية، وأن يكون الصحافي ابن مجتمعه، وأن يحول جمهوره إلى شركاء، وأن يركز الصحافي على «العميق» غير المنقول، و«أصوات المسرح الخلفي للخبر».
الصحافي ماركو دوريت، كتب في موقع «كونتنت انسايت»، أن «الصحافة البطيئة» هي تلك التي «لا تلتزم فقط بنشر الأخبار، بل تقوم بشرحها».
الصحافية وأستاذة الإعلام في جامعة سيدني، ميجان لومسيرير، ترفض التعريفات الكلاسيكية لـ«الصحافة البطيئة»، وتقول إن «الصحافة الإيجابية» ليس لها تعريف موجب، وإنما هي «مجرد نقد لآثار حالة السرعة التي تعيشها الصحافة الحالية».
الرؤية الأخيرة تبدو الأكثر واقعية لمستقبل «الصحافة البطيئة»، ففي عصر الإنترنت، والـ«فيس بوك»، و«تويتر»، ومع تقدير كل الإعلاميين لفكرة العمق والفحص والتحري، يبدو من المستحيل، أياً كانت الضريبة، عدم مجاراة القارئ بالمعلومة، ليس على مدار الساعة، بل ربما على مدار الثانية.