كنت محرراً علمياً

مثّلت وقائع تشويش الحقائق العلمية بسبب ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، واحدة من أهم الأخطار التي ترافق ظهورها مع بروز الإعلام الرقمي في السنوات الأخيرة. وفي حين أن كل تضليل للحقيقة هو أمر مؤذٍ وضار، فإن التضليل في العلوم المحضة يأتي في قمة الأضرار، كونه يلمس حياة الناس المباشرة بطريقة فورية. ومن هنا جاءت أهمية الاهتمام بالصحافة العلمية المدققة والموثوق بها، بوصفها طوق نجاة للناس من طوفان العوالم الافتراضية.

في كتابه «كنت محرراً علمياً» الصادر عن هيئة قصور الثقافة المصرية، يقدم المحرر العلمي الدكتور وجدي رياض، بوصفه صاحب رحلة مع مدرستين مختلفتين (كان ناظر أولاهما بحسب تعبير محمد حسنين هيكل، وناظر الثانية مصطفى أمين)، تجربته المميزة ويكشف أن الصحافي العلمي ليس مجرد ناقل خبر عابر، بل هو لاعب أساسي في صناعة الحياة في مجتمعه، فضبط إيقاع القاطرة بين المجتمع والعلم ليس وظيفة روتينية، وإنما هم دائم بالليل والنهار. ويضرب مثلاً على ذلك، بالتقاطه خيط خبر وهو عائد من السينما صدفة في الستينات، ليجد مبنى وزارة الصحة التي يغطيها صحفياً، مضاء ليلاً وبه حركة غير عادية، وحين يدخل يفاجأ بمدير الإحصاء في الوزارة يحمل كشفاً بأسماء المصابين بالكوليرا التي تم اكتشافها للتوّ، فيكتب وجدي الخبر ويضع عليه عنوان «للعلم»، ويتركه على مكتب محمد حسنين هيكل الذي لم ينشره، ولكنه يبلغ الرئيس جمال عبدالناصر.

ويوضح رياض في سرد رحلته فارقاً أساسياً ربما لا يراعيه البعض في التفرقة في مجال الصحافة العلمية بين المندوب العلمي، وهو الصحافي الذي يمثل الجريدة في المؤسسات العلمية والمحرر العلمي الذي لابد أن يكون على دراية واسعة بالمواد العلمية من طبيعة وكيمياء وأحياء، وأن يكون صاحب إمكانات، خصوصاً في هضم المواد العلمية أولاً وتبسيطها ثانياً. ويشير رياض إلى ضرورة الاستفادة من التجارب العلمية بهذا الشأن منذ صدور أول مجلة علمية لتبسيط العلوم في الولايات المتحدة، برئاسة إدوارد ليفنجستون يومانر، حملت عنوان «العلوم المقبولة لدى العامة».

ويقر رياض في تجربته بأن المادة العلمية قد لا تبدو جذابة، وقد يهرب الصحافي منها إلى مجالات أخرى، مثل السينما والرياضة والحوادث، لكنه يشير إلى إمكانية تجاوز ذلك حين يؤمن الصحافي بأن العلم هو كل شيء في الحياة، وبالتالي يمكن أن يحول المادة الصحافية العلمية إلى مادة جذابة، ويضرب مثلاً لذلك بـ«مترو الأنفاق الذي يسحب البشر إلى تحت الأرض».

ويتطرق إلى مشكلة تواجه الصحافي العلمي، وهي تعبيرات العلوم الحديثة وترجمتها التي قد لا يجد الصحافيون العلميون مكافئاً لغوياً لها مترجماً في اللغة العربية رغم ثرائها، كما يتطرق إلى مشكلة أخرى وهي سعي القائمين على البحوث العلمية على إخفاء عملهم رغبة في نجاحه، ويروي في ذلك تجربته في عمل تحقيق صحافي عن «القلب الاصطناعي»، كما يتطرق إلى مشكلة ثالثة، وهي التناقض بين دقة التوصيف العلمي والجاذبية الصحافية بين المحرر العلمي وهيئة التحرير.

الأكثر مشاركة