الرئيس الفرنسي يُنصِّب نفسه منقذاً لأوروبا
نادراً ما يعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه كان مخطئاً، وحينما يعترف بخطئه فإن ذلك يصبح من الغرائب. فبعد مرور عامين على حرب روسيا وأوكرانيا، يشعر الزعماء الفرنسيون والأوروبيون بالذهول وبعض الانزعاج إزاء التغيير الذي دفع الرئيس الفرنسي، الذي كان حمائمياً ذات يوم، إلى إعادة صياغة نفسه باعتباره أحد الصقور الأوروبيين الصريحين. وتحدث ماكرون مع قادة دول شرق حلف شمال الأطلسي (ناتو)، العام الماضي، مبيناً لهم أنه أخطأ بسذاجة في الحكم على نيات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2022، وكان ينبغي عليه أن ينتبه أكثر عندما شاركه في رقصة دبلوماسية.
وفي الشهر الماضي، ذهب هذا التحول إلى أبعد الحدود، حيث شرع ماكرون، وهو استراتيجي كبير، في مهمة لإيقاظ أوروبا والفرنسيين لما يعتبره تهديداً لوجودهم من تقدم روسيا غرباً إلى أوكرانيا، وجهودها لزعزعة الاستقرار بهجوم هجين.
ويقول ماكرون إنه يجب الآن هزيمة روسيا، ويجب أن تكون أوروبا مستعدة للتدخل. وقال في براغ هذا الأسبوع: «لقد اقتربت الحرب من أراضينا».
وأضاف: «لقد أصبح من غير الممكن إيقاف بعض القوى، وهي تهددنا أكثر كل يوم، وتهاجمنا أكثر، ونحن بحاجة إلى الشجاعة التي يتطلبها هذا الموقف». وفي الداخل، كلف ماكرون نفسه بمهمة تحويل الرأي العام المعارض إلى حد كبير لمساعدة أوكرانيا، وبدأ في تصوير اليمين الشعبوي، بقيادة مارين لوبان، على أنه متعاون محتمل مع الغزاة الروس.
واستطاع ماكرون أن يسرق الأضواء من القادة الأوروبيين، مستغلاً القيود السياسية التي يواجهها رئيسا الوزراء الألماني والبريطاني، أولاف شولتز وريشي سوناك، وغيرهما من رؤساء الوزراء الأوروبيين، ما أثار حفيظة الحلفاء قبل أسبوعين، عندما اقترح في قمة التضامن مع أوكرانيا في باريس، التي حضرها شولتز، أن «الناتو» يستطيع إرسال قوات للمشاركة في القتال.
وتسبب هذا الاقتراح في علاقة شائكة بين ماكرون وشولتز، ووصلت هذه العلاقة إلى أدنى مستوياتها هذا الأسبوع، عندما اتهم ماكرون شولتز، أثناء رحلة إلى براغ، بالضعف، بسبب إحجامه عن إرسال صواريخ توروس إلى كييف. وأصر الإليزيه على أن ماكرون كان يوجه اللوم إلى جميع حلفاء أوكرانيا، عندما قال إنهم «يرفضون رؤية المآسي القادمة»، وأضاف أنه «يجب ألا نكون جبناء».
ويبدو أن وقع ذلك كان كبيراً على قادة ألمانيا، فقد رد وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستوريوس، قائلاً: «نحن لا نحتاج حقاً إلى الحديث عن نشر قوات برية على الأرض أو التحلي بشجاعة أكبر أو شجاعة أقل». وأضاف: «هذا أمر لا يساعد في حل المشكلات التي نواجهها عندما يتعلق الأمر بمساعدة أوكرانيا».
وحظي ماكرون المتحمس الجديد بقبول طيب لدى القادة الأوروبيين الشرقيين، الذين شعروا بالفزع عندما كان يتودد لبوتين، ويرحب به في حرارة في فرساي عام 2017، وفي المنتجع الرئاسي الصيفي عام 2019، ودعواته له بعدم غزو أوكرانيا، بينما كانت الدبابات الروسية تصطف على الحدود الأوكرانية، واقتراحه للقادة الأوروبيين باحتضان روسيا في «بنية أمنية أوروبية» جديدة. وبالنسبة للقادة الشرقيين، فإن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت استرضاء فرنسا لروسيا، عندما دعا ماكرون القادة الأوروبيين في عام 2022، بعد أشهر من الحرب، إلى عدم «إذلال روسيا».
ومع ذلك، فإن ألمانيا، التي شعرت بالقلق إزاء تحول ماكرون العسكري، طلبت من فرنسا، القوة العسكرية النووية الأكبر والوحيدة في الاتحاد الأوروبي، أن تصمت، وتبدأ في إرسال حصتها العادلة من الأسلحة إلى أوكرانيا. ووفقاً لمعهد كيل في ألمانيا، وهو مركز أبحاث اقتصادي، تحتل فرنسا المركز الـ14 من حيث المساهمة في مد أوكرانيا بالأسلحة، متخلفة بفارق كبير عن الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، في مساهماتها. ويشكك الفرنسيون في هذه الأرقام، ويصفونها بأنها مضللة، ويجادلون بأن الكثير من إمداداتهم، بما في ذلك الصواريخ، ظلّ سرياً. ولم ينكر الفرنسيون أيضاً التقارير، التي أيدتها ألمانيا ضمنياً هذا الشهر، والتي تفيد بأن لديهم بعض العسكريين، إلى جانب بريطانيا، كمستشارين داخل أوكرانيا.
ماكرون، الذي اتهم في عام 2019 خدمته الدبلوماسية بأنها جزء من «الدولة العميقة» الفرنسية المناهضة لروسيا، يشعر الآن بالسعادة من تحوله كمنقذ محتمل لأوروبا. هذا التحول الجديد والمميز قاد الرئيس الروسي السابق، ديمتري ميدفيديف، هذا الأسبوع، ليصف ماكرون بأنه «الوريث التافه والمأساوي لبونابرت، الحريص على الانتقام»، في إشارة إلى هزيمة الإمبراطور الفرنسي في روسيا عام 1812.
ويقول ماكرون: «أنا مرتاح تماماً من أن مثل هذه الصحوة الاستراتيجية أمر حيوي في هذه الأوقات الخطرة». وبعد أن دعا 28 زعيماً أوروبياً آخر إلى مؤتمر عبر الفيديو، مساء الخميس الماضي، قال مساعدوه إنه عازم، على الرغم من خطر إثارة مثل هذه القضايا، على التأكيد على «الحاجة الملحة لبذل المزيد من الجهد لمساعدة أوكرانيا».
وترتبط مهمة ماكرون الجديدة بجهوده الطويلة الأمد، ولكن غير المثمرة حتى الآن، لتزويد أوروبا بنظامها الأمني وقدراتها الدفاعية، خصوصاً مع احتمال انسحاب الولايات المتحدة من «الناتو»، في ظل العودة المحتملة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ويقول مطلعون على الأمور إنه مدفوع بالإذلال الذي وجهه له بوتين خلال الشراكة الخاصة التي حاول تشكيلها معه بين عامي 2017 و2022. واستضاف ماكرون القمة الأخيرة عبر الفيديو، بعد التشاور مع سلفيه نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، ثم دعا زعماء أحزاب المعارضة لاطلاعهم على الاحتمال الكئيب، المتمثل في تقدم روسيا غرباً. وأظهر لهم خريطة جدارية للمواقع العسكرية، وقال لهم إنه لا ينبغي أن يكون هناك «المزيد من الخطوط الحمراء». وكان رد فعل الجميع متسماً بالانزعاج والغضب، زاعمين أن الرئيس كان يحاول استخدام الصراع الأوكراني كسلاح في الداخل، لتجنب الهزيمة الوشيكة لكتلته الوسطية في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو.
وجاء الغضب الأكثر حدة من حزب التجمع الوطني الذي تتزعمه لوبان، والذي من المتوقع أن يحقق فوزاً ساحقاً في الانتخابات. وكان رئيس وزراء ماكرون، غابرييل أتال، قد أخبر لوبان بالفعل أن حزبها الصديق لروسيا كان بمثابة الحرس المتقدم لبوتين في فرنسا. وقال رئيس الحزب، جوردان بارديلا، البالغ من العمر 28 عاماً، إنه طلب من ماكرون «ألا يخوض حرباً مع روسيا». وقال للرئيس إن «إرسال جنود فرنسيين لمحاربة قوة نووية مثل روسيا هو أمر غير مسؤول، وخطر للغاية على السلام العالمي».
* محلل في الشؤون الفرنسية
عن «التايمز اللندنية»
. شرع ماكرون، وهو استراتيجي كبير، في مهمة لإيقاظ أوروبا والفرنسيين لما يعتبره تهديداً لوجودهم من تقدم روسيا غرباً إلى أوكرانيا، وجهودها لزعزعة الاستقرار بهجوم هجين.
. قال جوردان بارديلا، إنه طلب من ماكرون «ألا يخوض حرباً مع روسيا». وقال للرئيس إن إرسال جنود فرنسيين لمحاربة قوة نووية مثل روسيا هو أمر غير مسؤول وخطر للغاية على السلام العالمي.