أجواء البلاد وأكلات الأجداد يحييها فلسطينيو الداخل في رمضان
صوت الأذان يصدح صداه في محيط عين مريم بالناصرة، وأسوار عكا، فيما تتزين أحياء العجمي والنزهة في يافا وشارع البحر بالفوانيس، لتعج شوارع حيفا والجليل بالمارة، ليقضوا ليلة رمضانية بنكهة فلسطينية، رغم احتلال الأرض والمقدسات.
مسجد الجزار
لا يمكن للوافد إلى عكا إلا أن يزور مسجد أحمد باشا الجزار، من أهم المعالم ليس في عكا وإنما في بلدات الداخل الفلسطيني المحتل، ففي ساعات الليل الأولى، حيث وقت صلاة التراويح يتردد المصلون من كل مكان، رجالاً ونساء وأطفالاً إلى باحة مسجد الجزار للصلاة داخلها. ويقول أبوإياد الزناري، «أتوجه أنا وأبنائي وزوجتي برفقة جيران البلدة لصلاة التراويح في جامع الجزار، لما له من مكانة دينية مميزة، حيث نقف جميعنا لهدف واحد هو إرضاء الله، وتتعالى أصواتنا بالدعاء». ويضيف «بعد انتهاء الصلاة أصطحبهم إلى أماكن بيع الحلويات الشهية، وشرب العصائر الطبيعية في الطرقات المؤدية إلى منزلنا، وأحياناً أزور الأرحام والأقارب والأصدقاء، فنحن ننتظر رمضان في كل عام، كي يعيد لنا فرحتنا، رغم كل ما نتعرض له من معاناة». وفي حديث مع الشيخ إبراهيم مصري، مؤذن مسجد أحمد باشا الجزار في عكا، يقول «إن أجواء عكا جميلة جداً، وفي شهر رمضان تكون أكثر جمالاً وتألقاً، فنجد المسلمين متآخين، أما مشاهد صلاة التراويح في مسجد الجزار فتلبس حلة جميلة، ويلتقي الأهل ببعضهم بعضاً، ويتبادلون أسمى معاني المحبة». ويضيف الشيخ المصري «إن مسجد أحمد باشا الجزار ابتكر برنامجاً خاصاً لأطفال البلدة، إذ يجتمعون بعد صلاة التراويح، وتوضع شاشة كبيرة لعرض فيديوهات تتحدث عن حياة الرسول الكريم». مسجد الجزار الذي سمي في فترة حاكم عكا في عهد العثمانين أحمد باشا الجزار، يعد ثاني أجمل مسجد في فلسطين بعد مسجد قبة الصخرة، فقد استخدمت في بنائه أجمل أشكال الفن المعماري. |
فمازالت البلدات الفلسطينية المحتلة تحتفظ بمكانتها التاريخية، وأصالتها الوطنية، على الرغم مما تتعرض له من انتهاكات وتدمير، ومحاولات للتهويد من قبل الاحتلال، حيت تأبى تلك المدن وأماكنها المقدسة التخلي عن هويتها وعروبتها وقداستها، فمع قدوم شهر رمضان المبارك، يستشعر القادم إليها بأجواء شهر الصيام.
الجائلون في حواري وأزقة البلدات العربية يتذوقون جمال رمضان وطعم أجوائه، فالفوانيس تزين مداخل البلدات القديمة في حيفا وعكا ويافا، ومنازل المواطنين، وخير دليل على ذلك السوق الشعبي في عكا، وساحة وميناء يافا، وساحة الرينة في الناصرة، فالمارّون تستوقفهم الأجواء الرمضانية، وبضائع المحال التجارية.
مشاهد رمضان
المشهد الرمضاني في الناصرة له رونقه الخاص، فقبل موعد الإفطار بنصف ساعة ترى معظم المواطنين في حركة دؤوبة، هذا يسرع للحانوت ليشتري المخللات، وذاك يركض ليشتري الحلويات، وما إن يتقدم بهم الوقت حتى يبدأون بالدخول إلى منازلهم، حتى لا يبقى في الشارع سوى بضعة أطفال ينتظرون أن يسمعوا أصوات الأذان، فإن شعروا بأنه قد تأخر لفرط جوعهم، تراهم ينادون للأذان بأنفسهم، ويستمرون على هذه الحال حتى ينادي المؤذن معلناً موعد الإفطار.
«الإمارات اليوم» تنقلت بين أسواق وأزقة الناصرة، حيث تصطف البسطات المختلفة طوال أيام الأسبوع، التي تتزين بكل ما تشتهي الأعين من أصناف الحلويات المختلفة، وعلى رأسها القطايف، إلى جانب المشروبات الرمضانية المعروفة والمتنوعة، ومنها الخروب، والتمر هندي، وقمر الدين.
ويقول خالد طاطور، صاحب أحد المحال التجارية في الناصرة «نستعد لاستقبال شهر الرحمة كي نُدخل السرور إلى قلوبنا وقلوب أطفالنا بعد العناء الذي نواجهه من المحتل، الذي يحاول بشدة قتل فرحتنا واستعدادنا لرمضان، لكن إصرارنا يشعل فينا البقاء والتحدي من أعماقنا».
تعمقنا داخل منازل العرب في الناصرة، فوجدنا نكهة رمضان التي عاشها الأجداد منذ 68 عاماً حاضرة بكل تفاصيلها إلى يومنا هذا، فالسيدة رؤوفة شرارة، تسترد ما سمعته عن أجواء رمضان منذ أن كانت طفلة.
وتقول «»كانت أمي وستي يسبقن الفجر لإعداد وجبات البرغل، وينقعن قمر الدين في الماء، ويحفظن زير الماء بلفات من الخيش الرطب، كي يبقى بارداً، أما سيدي إسماعيل فكان يزرع في أراضي الرينة بالناصرة، ويخصص محصولاً لمواسم رمضان، كالفجل والبقدونس والنعناع والملوخية، وتتناوله العائلة في الفطور السحور.
ومن المأكولات التي ورثتها، ومازالت تعدها شرارة وتقدمها على موائد رمضان، أكلة المطقطقة، المكونة من لفائف من العجين تُقلى في الزيت ويضاف لها الجبن واللوز والقطر، وكذلك حلوى البصامي، وهي عبارة عن خبز الصاج الرقيق المقلي بالزيت، والمُشبع بالقطر.
وفي المنزل المجاور لرؤوفة شرارة كانت سناء أبوليل تجهز حبات البرغل وتجمع عيدان البقدونس لإعداد طبق التبولة، فيما بجانبها أحفادها يلعبون بفوانيس صغيرة أحضرها آباؤهم لهم لإدخال فرحة شهر الصيام إلى قلوبهم.
وتقول أبوليل «إن رمضان له رونق خاص عن بقية الشهور، وما يميزه لمة العائلة مع بعضها بعضاً وقت الفطور، والتنوع في الطبخات، والحلويات مثل القطايف والكنافة».
عكا قبلة التسوق
مدينة عكا الساحلية تعيش أجواء شهر الصيام على مدار الساعة، فبداية نهار رمضان لا يختلف عن أي وقت، حيث يتوافد السائحون والزائرون بحثاً عن تاريخ يمتد إلى آلاف السنين، وحضارة شيدها الكنعانيون والعثمانيون والفرس والروم على مدار العصور، ومازالت حاضرة دون اندثار.
فسوق عكا يعيش أجواء رمضان طوال الوقت أكثر من أي مكان في المدينة، ففيه تباع الأطباق التقليدية، ومستحضرات الطعام التي سيزينون بها مائدة الإفطار، فيما يلتقي سكان المدينة بعشرات الزوار من سكان القرى العربية المجاورة لعكا، ففي ساعات الظهيرة تعج أزقة السوق بهم حتى تقترب الشمس من الزوال.
التقت «الإمارات اليوم» عبدالله سرحان، من سكان منطقة مجد الكروم في حيفا، أثناء تجوله في سوق عكا، حيث قدم إليه لشراء متطلبات منزله في رمضان.
ويقول سرحان «أرغب دائماً في زيارة عكا، خصوصاً في رمضان، وذلك لشراء كل الاحتياجات من أسواقها، خصوصاً الأسماك الطازجة من ميناء عكا التاريخي، بالإضافة إلى التزود بحلويات عكا المميزة، لاسيما الهريسة والعوامة، وذلك لتمتعها بنكهة خاصة، إلى جانب عصير الرمان المنعش في رمضان».
مع اقتراب موعد الإفطار ترتدي عكا حلة جديدة، فالهدوء يسود الشوارع، فيما يتوافد الصائمون من سكان المنطقة المجاورة إلى مطاعم الميناء لتناول أشهى الأطعمة على الإفطار.
ويقول عيسى طنطوري، صاحب مطعم شعبي في البلدة القديمة بعكا «الأجواء في رمضان داخل البلدة القديمة لها أجواؤها ونكهتها التي لا تنافسها أي أجواء في مكان آخر، فسكان عكا طيبون، ويحترمون ضيوفهم وزوار مدينتهم، والنفوس تكون هادئة ومطمئنة».
ويقول سمير زكور، بائع الأسماك في ميناء عكا «في رمضان تكثر الحاجات والمتطلبات لإعداد الأصناف المتنوعة للأطعمة، لذلك انخفضت أسعار الأسماك حتى يتمكن جميع المواطنين من شرائها، وطهيها، لتقديمها على الإفطار».
وبالانتقال إلى ليالي عكا، فإنها تبدأ مباشرة بعد الإفطار، فيتجول زوار المدينة وسكانها في الميناء بحثاً عن المتعة، إذ تجد الأطفال كما الكبار يعتلون الحناطير والعربات المزينة بألوان رمضان، ليعود الصخب إلى المكان، وتقضي مدينة الأسوار البحرية العالية ليلة رمضانية بأجواء فلسطينية عربية خالصة رغم كل المنغصات التي تلفها من كل مكان.
أما تجربة وجود القوارب وركوبها من قبل المواطنين، والتجول في مياه عكا لا تؤجل أو تتوقف في رمضان ولياليه الساهرة، حيث يتردد أهالي عكا وزوارها طوال الليل على تلك المراكب ليلطفوا من أجواء الحر، ويعيشوا أوقاتاً تدخل البهجة إلى أرواحهم بعد شقاء الصوم.