تقنيات حديثة تسعى إلى اكتشاف مدلول الكلمات في الوقت الحقيقي
«تحليل الحديث» تُعرّف مراكز الاتصال بحقيقة مشاعر المتصل
لا يقتصر حديثنا على الكلمات التي ننطق بها فقط، بل يتضمن أيضاً طريقة الحديث، ونبرة الصوت، وسرعة الحديث، وأحياناً تدل بعض الألفاظ البسيطة على بعض ما يضمره الشخص، إضافة إلى حركات الجسد وتعبيرات الوجه، وكثيراً ما تشير الكلمات إلى السعادة أو الرضا، في حين يُظهر التحليل الدقيق شعور صاحبها بالحزن والإحباط.
وعادة ما يعتمد اكتشاف ذلك أثناء المحادثات المباشرة على المعرفة الوثيقة بشخصية المتحدث وطبيعة صوته، أو على الخبرة الحياتية الواسعة، ويبدو الأمر أصعب خلال ملايين المكالمات الهاتفية التي تجري يومياً في مراكز الاتصال الخاصة بالشركات والهيئات الحكومية والطوارئ وغيرها، وربما لو استطاع ممثلو خدمة المتعاملين إدراك ما وراء الكلمات المباشرة للمتصلين والاقتراب من حقيقة شعورهم، لأمكنهم تقديم خدمات أفضل.
وتعمل شركات عدة على تقنيات مختلفة للتحليل الحاسوبي للحديث، بهدف إيجاد طرق آلية لاكتشاف المعاني الكامنة وراء الكلمات المنطوقة في الوقت الحقيقي، وتتجاوز تطبيقات ذلك مراكز الاتصال إلى الشخصيات العامة الراغبة في تحسين طريقتها في الحديث.
وعلى الجانب الآخر، يتشكك مختصون في جدوى تقنيات التحليل، واحتمال أن يُساء استخدامها، بما يؤدي إلى إصدار أحكام خاطئة حول مستهلكين أو متقدمين لشغل وظائف، بحسب تقرير نشرته صحيفة «ذا نيويورك تايمز» الأميركية.
وفي الواقع، لا يُعد تحليل محتوى المكالمات في مراكز الاتصال نهجاً جديداً، فعلى مدار العقد الماضي اعتادت مراكز الاتصال تسجيل جميع المكالمات، سواء تضمنت طلباً لخدمة معينة، أو شكوى، أو نقداً لاذعاً، وحتى المكالمات المزعجة.
وفي البداية، كانت الشركات المسؤولة تحلل مجموعات من المكالمات المسجلة بهدف تقييم أداء الموظفين، لكن الأمر اختلف في الآونة الأخيرة بفضل تحسن البرمجيات وكفاءة المخدمات، وتحوّلت مراكز الاتصال إلى نهج أكثر تقدماً يُطلق عليه «اكتشاف الكلمات» لفحص كل مكالمة، فعلى سبيل المثال، يمكن لمراكز الاتصال توجيه محركات تحليل الحديث للبحث عن كلمات أو عبارات معينة مثل: «هذه هي المرة الثالثة التي اتصل بكم»، أو «لقد كنت متعاملاً وفياً لدى الشركة على مدى 10 سنوات»، وتبدو مثل هذه العبارات محمّلة بعواطف كثيرة بما يُشير إلى تصاعد استياء المتصل.
وإضافة إلى ذلك، فمن الممكن أن يُسهِم تحليل مكالمات المتعاملين في اكتشاف اتجاهات جديدة أو حوادث غير متوقعة، مثل مشكلة مفاجئة في توصيل المنتجات أو عطل في الخدمة، وبحسب نائب رئيس شركة «فيرنت» لشؤون التسويق، ريان هولينبيك: «إذا استطعت تحديد المشكلة، والوصول إلى السبب الجذري وإصلاحه، يمكن أن توفر ملايين الدولارات».
ولا يقتصر استخدام تحليل الحديث وما ينطوي عليه من مشاعر على مجالٍ واحد، بل يُستخدم في الخدمات المالية، والتأمين، والصحة، والسفر، والاتصالات السلكية واللاسلكية.
ويُقدر حجم سوق تقنيات تحليل الحديث بمبلغ 214 مليون دولار سنوياً، وفقاً لتقديرات شركة أبحاث السوق «دي إم جي كونسلتينغ» المعنية بمجال مراكز الاتصال.
ومن بين الشركات المختصة بتحليل مكالمات مراكز الاتصال، «كول مينر»، التي تعتمد على تصنيف الكلمات التي يتلفظ بها المتصلون ضمن فئات مثل «عدم الرضا»، و«التصعيد»، كما تعمد شركة «فيرنت» إلى تحليل جميع العبارات التي ترد في المكالمة، بحسب نائب رئيس الشركة، دانيال زيف، وقال إن عبارة مثل «هذا سخيف» لا يُحتمل استخدامها بطريقة إيجابية أو ضمن المزاح.
وتنهج شركة «بيوند فيربال» الناشئة، التي يعني اسمها «ما وراء الألفاظ»، أسلوباً مختلفاً لا يتوقف أمام ما يقوله الأشخاص، بل الطريقة التي يتحدثون بها، وتعتمد على خوارزميات تُحلل خصائص صوت المتحدث مثل النبرة والتردد، لتقييم المشاعر الكامنة وراء الكلمات، وطُورت الخوارزميات استناداً إلى تحليل مشاعر 70 ألف شخص يتحدثون بـ30 لغة مختلفة.
وبحسب الشركة، فيمكن لبرنامجها تحديد 400 فرق بين الحالات المزاجية المختلفة، وإضافة إلى تمكنه من تحديد الحالة المزاجية الرئيسة والثانوية للمتصلين، يستطيع البرنامج التعرف إلى سلوكهم وشخصياتهم الكامنة.
وتقدم الشركة تقنيتها الوليدة باعتبارها طريقة عمل متقدمة لمراكز الاتصال تعينها على قراءة مشاعر المتصلين في الوقت الحقيقي، وتقديم الاستجابة الملائمة.
وأشار نائب رئيس الشركة للتسويق، دان إمودي، إلى أن «البرنامج يساعد الموظفين على تحديد طريقة استجابتهم لكل مكالمة، فإذا كان المتصل من فئة المتعاملين التي تؤمن بأن (المتعامل دائماً على صواب)، فحينها ينبغي على الموظف إشعاره بالتقدير والاحترام المناسبين، أما إذا كان المتصل يتطلع إلى الصداقة، فيُفضل الرد بلهجةٍ ودية ومباشرة».
في المقابل، لا يسلم تحليل الأحاديث والمكالمات من انتقادات عدة، فيرى البعض أن التوسع في الأمر قد يؤدي إلى إغضاب المستهلكين أو المتصلين، بسبب شعورهم بأن الموظف الذي لا يعرفونه على الطرف الآخر من المكالمة يطلع آنياً على تحليل لما يعتمل في نفوسهم.
كما ينتقد البعض احتمال تعدي تحليل الحديث على خصوصية المتصلين، ويرى محللون ضرورة أن تُنبه الشركات التي تعتمد ذلك متعامليها، وأن تشير بوضوح إلى أنها تحلل بياناتهم.
ومن جانبه، يرى أستاذ الاقتصاد وعلم النفس في جامعة «كارنيجي ميلون» الأميركية، جورج لوينشتاين، أن الخطر الأكبر المتعلق بهذه التقنيات لا يتمثل في انتهاكها لخصوصية الأفراد، بل في احتمال اعتماد الشركات عليها لإصدار أحكام بشأن المتعاملين أو المتقدمين لشغل الوظائف، وهو ما يمكن أن ينتهي، بحسب رأيه، إلى اتخاذ قرارات تعسفية وتمييزية.
لكن مع ذلك، تؤكد «بيوند فيربال» أن الفكرة من استخدام تقنيتها لا تكمن فقط في التعرف إلى المتصلين غير الراضين عن الخدمة والسعي إلى تهدئتهم، لكن تتضمن أيضاً مساعدة الموظفين على التمييز بين فئات المتصلين، والتفرقة بين شخص محبط بالفعل ويسعى إلى حل مشكلته، ومن ثم ينبغي منحه الوقت الكافي، وشخص آخر يسعى فقط إلى التنفيس عن غضبه.