
دراسة تبحث إمكانية استخدام بيانات «المحمول» لدراسة توزيع السكان
طالما كان لمعرفة توزيع السكان في بلدٍ أو منطقة ما منافعها المختلفة من استخدامها في التخطيط الدقيق للطرق، وتوزيع الغذاء ومختلف الخدمات، وصولاً إلى تحديد ردود الفعل الملائمة في ظروف مثل الكوارث الطبيعية وتفشي الأوبئة، ونشوب الصراعات المسلحة.
ولفترة طويلة اعتمدت هذه العملية على الإحصاءات التقليدية لعدد السكان، لكن يعيبها كلفتها المرتفعة التي لا تتحملها دول عدة، إضافة إلى ما تحتاج إليه من وقت وجهد، ما يجعل الفارق بين إحصاء وآخر يمتد في بعض الأحيان سنوات.
وشهدت العقود القليلة الماضية تقنيات جديدة، مثل الاستشعار عن بعد ونظم تحديد المواقع الجغرافية، التي غيرت سبل دراسة التوزيع السكاني، إلا أنها ظلت رهينة للتعدادات السكانية التقليدية بما تتطلبه من إمكانات كبيرة، الأمر الذي صعب من تحديد التغيرات اليومية والشهرية وحتى السنوية، وفرض قيوداً على الاستفادة من معلومات الإحصاء السكاني، لاسيما في أوقات تُواجه فيها دول حاجة ملحة لمثل هذه المعلومات، مثل حالات الكوارث والصراعات.
وحالياً تحظى الهواتف المحمولة بانتشار واسع النطاق لا يستثني منطقة من العالم، ما يدفع إلى التفكير في إمكانات الاستفادة من بيانات الهواتف المحمولة، وتحليل التوزيع المكاني والزماني للمكالمات الهاتفية في بناء خرائط مفصلة للتوزيع السكاني على مستوى الدول بكلفة أقل، وبما يحفظ خصوصية المستخدمين.
دراسة حديثة
وسعت دراسة حديثة للكشف عما إذا كان بمقدور الانتشار العالمي الواسع للهواتف المحمولة الإسهام في تقديم رؤية أكثر تفصيلاً لتوزيع السكان، يفوق ما توفره الطرق التقليدية المعتمدة على الإحصاءات السكانية. كما تساءلت عن إمكانية أن تُمثل بيانات الهواتف المحمولة حلاً للدول التي لا يُمكنها تحمل نفقات إجراء التعداد السكاني التقليدي، واحتمال أن تُظهِر هذه المعلومات الفروق الدقيقة للجغرافيا البشرية، فضلاً عن سبل إنجاز ذلك كله دون انتهاك خصوصية وأمن السكان من مستخدمي الهواتف المحمولة.
ونُشرت الدراسة أخيراً في «دورية الأكاديمية الوطنية للعلوم» الأميركية، وأجراها فريق من الباحثين بإشراف بيير ديفيل من جامعة لوفان البلجيكية، ومركز أبحاث الشبكة المعقدة في جامعة نورث إيسترن الأميركية، وكاثرين لينارد من جامعة بروكسل الحرة في بلجيكا. وأشارت الدراسة، التي حملت عنوان «رسم خرائط ديناميكية للسكان باستخدام بيانات الهواتف المحمولة»، إلى دور تسجيل الهواتف المحمولة، الذي تُجريه دون تدخل المستخدمين في أقرب أبراج الاتصالات إليها، في توفير نوع من الإحصاء السكاني المباشر، ما يُفيد في تحديد طريقة التعامل مع أحداث مثل الزلازل وانتشار فيروس «إيبولا».
ومنذ تسعينات القرن الـ20، اتجه متخصصون في علوم إحصاء السكان والجغرافيا إلى تقليص نطاق بيانات الإحصاءات السكانية، وأحرزوا تقدماً في استغلال معلومات عن الطرق المرصوفة وشبكات الشوارع والمناخ، لتقسيم تعدادات السكان إلى مساحات يصل كلٌ منها إلى 100 متر مربع.
لكن اتسم هذا النهج ببعض العيوب؛ منها اعتماده الإحصاءات التي تجرى على مستوى الدول أساساً له. وفي أنحاء مختلفة من العالم تُعد هذه الإحصاءات أمراً نادر الحدوث، وهو يرجع في معظم الأحيان إلى التكاليف الباهظة وتعقيدات عملية، ويُمثل ذلك إشكالاً واضحاً؛ نظراً لأن السكان الأكثر عرضة لخطر الكوارث والأوبئة عادةً ما يعيشون في بلدان تعاني قلة توافر الإحصاءات السكانية، فضلاً عن تراجع مستوى دقتها.
ورأت الدراسة في التبني السريع للهواتف المحمولة في مختلف أنحاء العالم، أملاً بتوفير طريقة جديدة لسد هذه الثغرات في البيانات. وبدأ فريق البحث بالحصول على مجموعة بيانات عن مليار مكالمة هاتفية أجراها مليونا مستخدم في البرتغال، و17 مليوناً في فرنسا.
ومن خلال دراسة فريق البحث لبيانات أبراج الاتصالات ومعلومات شركات الهواتف عن معدلات انتشار الخدمة، تمكن من استنتاج التعداد السكاني المحيط بكل برج.
وبحسب كاثرين لينارد، فإن من بين مزايا هذه الطريقة توفيرها وسيلة لإنتاج خرائط تخص فترة النهار أو الليل، وأيام الأسبوع، وعطلات نهاية الأسبوع، إضافة إلى فترات العمل وأيام عطلات الأعياد الدينية.
الخصوصية الشخصية
وبالطبع، يُثير استخدام بيانات الهواتف المحمولة لرصد الكثافة السكانية مخاوف بشأن الخصوصية الشخصية والخطر الأمني. وفي ذلك، لفتت الدراسة إلى عدم إدراج هويات المستخدمين في مجموعة البيانات التي استخدمتها، كما لم تتضمن تسجيل الوقت الذي انتقلت فيه المكالمة إلى البرج التالي.
وتوصلت الدراسة إلى توافق خرائط التوزيع السكاني في البرتغال مع البيانات المعتمدة على الإحصاءات السكانية، كما تضمنت النتائج على المستوى المحلي إشارات مُثيرة للاهتمام حول العاصمة لشبونة؛ إذ ساعد التحليل المستند إلى بيانات الهواتف المحمولة على التقاط تفاصيل أغفلتها أساليب أخرى.
وبحسب ما انتهت إليه الدراسة، تُوفر المعلومات الرقمية «فهماً أقرب إلى الوقت الحقيقي للأنماط والعمليات في الجغرافيا البشرية»، فضلاً عن فتحها المجال أمام تطبيقات مُبتكرة. وفي الوقت نفسه، أشار فريق البحث إلى تزايد أهمية هذا الأسلوب مع ارتفاع عدد أبراج الهواتف المحمولة التي يجرى دراسة بياناتها. ووفقاً للدراسة، تعتمد دقة هذه الطريقة على بنية الشبكة، ما يعني تحسن هذا الأسلوب مع مرور الوقت، ومواصلة الإقبال على استخدام المزيد من الهواتف المحمولة. وعلاوة على ذلك، تبين تفوق بيانات الهواتف المحمولة على الطرق التقليدية في الاستجابة للتغيرات التي تطرأ على الكتل السكانية بمضي الوقت. وبتطبيق المنهج نفسه على بيانات الهواتف المحمولة في فرنسا، اتضح التناقص الكبير في تعداد المدن الرئيسة خلال فصل الصيف وفترات العطلات الأخرى بتدفق السكان خارج باريس إلى الجبال الفرنسية وسواحل الشواطئ، باستثناء من يتجهون إلى مدينة «ديزني لاند باريس» ومطار شارل ديغول.
فوائد البيانات
وذكرت الدراسة أنه «في ما يتعلق بالقرارات التنفيذية والحكومية، فسيكون لهذه البيانات قيمتها أيضاً في دعم الاستجابات السريعة للأحداث الطارئة، وفي أغراض التخطيط على المدى الطويل». ويُمكن لتحديد توزيع السكان بواسطة بيانات الهواتف المحمولة أن يُسهل توفير ردود الفعل الملائمة في أمور تتنوع بين إمدادات الإغاثة في أعقاب الزلازل والمنطق التي ينبغي توجيه الخدمات الطبية إليها لمواجهة فيروس «إيبولا». ويبقى الحصول على البيانات أحد التحديات القائمة. وبحسب لينارد، حصل فريق البحث على بيانات تعود إلى السنغال وساحل العاج، دون أن تتوافر لديهم بيانات ليبيريا حالياً. وترتبط الدراسة بنقاشٍ أوسع يدور حول قوة بيانات الهواتف المحمولة، وأي جهة ينبغي أن يكون لها السيطرة عليها. كما تُشير إلى إمكانية استخدامها من قبل مجموعات تُعاني سوء تمثيلها في الإحصاءات الرسمية لتطلب بيانات هواتفها المحمولة من شبكات الاتصالات لتبين الأماكن التي تعيش فيها في الواقع، والموارد التي تحتاج إليها.