الخرائط الورقية لاتزال تحتفظ بقيمتها

في عصر تحظى فيه «خرائط غوغل» وغيرها من الخرائط الرقمية برواج واسع، قد لا يلتفت كثيرون إلى ما انتهى إليه رسم الخرائط الورقية ودوره في الوقت الحاضر، وما إذا كان مستمراً حتى الآن، لكن في الواقع فإن مجموعة من رسامي الخرائط الورقية المتحمسين يعملون للحفاظ على هذا الفن، وإنقاذه من المصير الذي آلت إليه الخطابات المكتوبة باليد والصور الفوتوغرافية التقليدية.

وقال رسام الخرائط الأميركي، دانيال هوفمان، متأثراً بشعوره بالحزن: «لا يعرف معظم الناس أصلاً بوجودنا»، مضيفاً أنه على الرغم من عصر الخرائط الرقمية التي تنتج آلياً على نطاقٍ واسع، فلايزال لرسم الخرائط المتخصص قيمته، حسب ما تضمن تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، أخيراً.

ويعمل هوفمان مسؤولاً في جمعية أميركا الشمالية لرسم الخرائط، التي تضم أكثر من 400 عضو من صناع الخرائط الورقية، سواء تحولوا إلى الإنتاج الرقمي، أو لايزالون يعملون الأمرين معاً. وأشار هوفمان إلى اندهاش الناس من حصوله على وظيفة في ظل وجود «خرائط غوغل»، وقال: «نحن الحرفيين والفنانين يُوظفنا الأشخاص الذين يثمّنون ذلك».

ولا تقتصر عضوية الرابطة غير الرسمية لصناع الخرائط على فنانين كبار السن يتشبثون بحرفتهم القديمة في مواجهة سطوة العالم الرقمي، بل تضم شباباً، منهم هوفمان الذي يبلغ من العمر 33 عاماً، ويرى أن خريطةً ورقيةً رائعة أشبه ما تكون بقصيدة الشعر.

وتعاني صنعة رسم الخرائط من صعوبات مالية بسبب تراجع أرباحها الناتج عن الإقبال المتزايد على الخرائط المتوافرة على الأجهزة المحمولة. وفي محاضرة تعود إلى عام 2009، أثنى الخبير الفني المتخصص في الجغرافيا المكانية في «غوغل»، إد بارسونز، على تفوق الخرائط على الإنترنت، وتهكم على الخرائط الورقية باعتبارها «جامدة» و«غير شخصية». وأشارت «وول ستريت جورنال» إلى رفضه التعليق على التقرير.

لكن رأي بارسوز يلقى معارضة من أمثال الأستاذ في جامعة «شيفيلد» البريطانية، بول كلوف، الذي أجرى دراسة قارنت بين الخرائط الورقية وتلك المتاحة على الإنترنت. وخلص كلوف إلى احتفاظ الخرائط الورقية بدورٍ مهم، مستشهداً بالاستخدامات العسكرية، وحاجة الجنود إلى الخرائط الورقية في ساحات القتال، ففيها قد يكون لفقدان الإشارة عواقب كارثية.

وحسب كلوف، يندرج الخلاف بين الخرائط الورقية والرقمية ضمن سؤال أكبر مفاده «هل لايزال الورق وسيطاً صالحاً». وقال إن الورق يتسم بطابعٍ شخصي، كما يفضله الكثير من الأشخاص.

وفي نموذج آخر لرسامي الخرائط، أورد التقرير تجربة ريان سوليفان الذي يبلغ من العمر 34 عاماً. وقال سوليفان إن أكثر مشروعاته إثارة للحماسة خلال السنوات الأخيرة كان اشتراكه في تصميم خريطة ورقية صممت لتشجيع الشباب من ذوي الأصول الإسبانية في بورتلاند على زيادة نشاطهم في المشي وركوب الدراجات.

ووفق الوكالة الحكومية الإقليمية في بورتلاند، التي تكفلت بالمشروع «مترو»، فقد بدا الورق وسيطاً مثالياً، لافتقاد العديد من السكان هواتف «آي فون» أو الحواسيب، خصوصاً في عام 2011 حين صدرت هذه الخرائط للمرة الأولى. وقال سوليفان: «بدأنا بهدف تصميم أروع خريطة مطبوعة ممكنة»، لافتاً إلى أملهم في أن يُقبل الشباب على تعليقها كالملصقات في غرف نومهم. وتم تبادل نحو 73 ألف خريطة بالطرق التقليدية عبر الأيدي.

وإلى جانب رسامي الخرائط، يسهم محبو الخرائط الورقية في دعم استمرارها بتنفيذ مشروعات شخصية لإنتاجها، ومن ذلك خريطة لمدينة ممفيس في ولاية تينيسي الأميركية تُبرز مختلف الأماكن التي لعبت دوراً في حياة المغني والممثل الأميركي الشهير إلفيس بريسلي الذي عاش ودُفن فيها.

وتُظهر الخريطة بمساحتها البالغة «45.7*68.5 سنتيمتراً» المطبوعة على ورق مصقول مدينة ممفيس بألوان الباستيل، وتتضمن 127 رسماً يدوياً للأماكن المهمة لمعجبي المغني الأميركي الذي عُرف بلقب «ملك موسيقى الروك آند رول». وتتضمن المعالم منزله «جريسلاند» حيث عاش ودُفن، ومطعم «كوليتا» الإيطالي الذي اعتاد تناول البيتزا فيه، إضافة إلى أماكن لم تعد قائمة كمقهى عملت فيه والدته جلاديس كنادلة في الخمسينات، وشركة «كراون إلكتريك»، حيث عمل سائق شاحنة عام 1953.

ودعم مشروع الخريطة زوجان من مدينة نيوريوك، هما المحامي آلان جروسمان وزوجته أندريا شاو. واستثمر جروسمان نحو 50 ألف دولار في إنتاج الخريطة التي قادها ولعه ببريسلي أكثر من حبه للخرائط الورقية، وما لبث أن شاركته شاو بعد زواجهما في عام 1991 الولع نفسه.

وخلال البحث شعرت شاو بالإحباط، لأن العديد من الأماكن المهمة في حياة بريسلي لم تعد قائمة، إما لأنها تحولت إلى غرض آخر أو بسبب الهدم، ما ترك فجوة كبيرة. ومع ذلك قرر الزوجان إدراج جميع المعالم المهمة، بما في ذلك تلك التي لم تعد موجودة.

ووظف الزوجان فناناً تلقى تدريباً كمهندس معماري لمحاولة تقديم شكل وطابع مدينة ممفيس كما عاشها بريسلي، واستعانا بمصمم رسوميات. وفي البداية، فكرا في إتاحة نسخة من الخريطة على الإنترنت، ثم تراجعا عن الفكرة. وتُباع الخريطة بسعر 9.95 دولارات على الإنترنت وفي متاجر، منها محل الهدايا في منزل «جريسلاند».

وقال جروسمان الذي يبلغ من العمر 69 عاماً: «نشأت مع الخرائط، ولا أزال أجد الخريطة الحقيقية مريحة وسهلة القراءة». وتتذكر شاو التجاوب الأول مع الخريطة وتساؤل من يراها عن نيتهما توفير تطبيق للأجهزة الذكية، وقالت: «كان رد الفعل الأول للأشخاص: هل ستقدمون تطبيقاً؟ قلت: لماذا تحتاج إلى تطبيق؟ انظر إلى ما بين يديك».

وقال جروسمان مقارناً بين الخريطة الورقية لممفيس وخريطتها في «غوغل» كما تعرض على شاشة هاتفه «آي فون 6 بلس» بشاشته البالغة خمس بوصات ونصف البوصة، إن الأخيرة يمكن أن تُمثل أي مكان في الولايات المتحدة، بينما الأولى هي ممفيس.

وأشار مدير «خرائط غوغل»، مانيك جوبتا، إلى إمكانية التعايش بين الخرائط الورقية والرقمية، ووصف «خريطة إلفيس» بالرائعة. وقال إن «خرائط غوغل» تُتيح للمستخدمين استكشاف موقع معين عن بعد، ومعرفة تاريخه، وتكبير الصورة وتصغيرها. كما يُسهم جيش من «رسامي الخرائط » في تحديث الخرائط والإبلاغ عن أي تغييرات.

لكن جوبتا أقر في الوقت نفسه بأنه شخصياً يطبع «خرائط غوغل» عند سفره ليثنيها داخل جيبه، ويتمكن من مشاركتها مع سائقي سيارات الأجرة.

ولفتت متحدثة باسم الشركة إلى تزيين الخرائط الورقية لجدران مكاتب «خرائط غوغل».

وقال الأستاذ في جامعة «ييل» الأميركية، الذي يعمل رساماً للخرائط، بيل رانكين: «هناك الكثير ليُقال عن وجود خريطة ورقية على الحائط». وأضاف «بعد سنوات من العيش معها، تبدأ حقاً بفهم التعقيد بطرق لا تحصل عليها عندما تمضي بضع قائق للنظر إلى شاشة صغيرة».

 

الأكثر مشاركة