الخرائط الرقمية تغيّر طريقة فهمنا للعالم
خلال الأعوام القليلة الماضية تغيّر كثيراً أسلوب استخدام الخرائط، وتالياً الطريقة التي ينظر بها الناس إلى مدنهم ومحيطهم وشكل تفاعلهم معها، والطريقة التي يتنقلون بها في الشوارع والطرقات والأزقة والحدائق والتلال وبين مجاري المياه، ويشهد ذلك كله تحولاً جذرياً لا يرجع أساساً إلى تغير المعالم وتخطيط الشوارع، بل إلى الهواتف الذكية التي يحملها ملايين الأشخاص في جيوبهم.
ولم تعُد الخرائط حكراً على الأطلس أو الكتب المتخصصة أو الكتيبات السياحية أو حتى شاشات الحواسيب، بل صار الوصول إليها يتطلب فقط النظر إلى شاشة الهاتف، الأمر الذي أثر في رؤية الأشخاص للعالم ككل، فالخرائط الرقمية تضع المستخدم افتراضياً في قلب الصورة ليصبح كل ما يحيطه متفرعاً منه، ما قد يهدد بفقدان الإحساس بالمدن كوحدة واحدة، بحسب ما تناول توماس ماكمولان في مقال نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية.
واعتبر الباحث في الجغرافيا الثقافية في جامعة «رويال هولواي» البريطانية، مايك دوغان، أن تطبيقات مثل «خرائط غوغل» و«سيتي مابر» تسهم في تقليل الاختلافات المميزة لأجزاء المدينة، ويبحث دوغان في السبل التي غيرت بها التقنيات الرقمية تجربة التعامل مع الأماكن اليومية.
وأوضح أنه على الرغم من التاريخ الطويل لمحو الاختلافات في المدينة من خلال التكنولوجيا، فإن التقنيات المحمولة ــ أي الهواتف الذكية ــ قدمت الكثير جداً وفي مكانٍ واحد، هو راحات الأيدي.
وأضاف: «في كثير من الأحيان يبدو هذا كثورة؛ لأنه لم يَعُد علينا أن نبحث بعيداً جداً عن معلومات تجعل حياتنا أيسر، فقط نمد أيدينا إلى جيوبنا».
وعلى أي حال، يمثل توافر خريطة الجيب تطوراً حديثاً نسبياً، كما يرى مشرف رسم الخرائط الأثرية في «المكتبة البريطانية»، توم هاربر، الذي يشير إلى أنه «خلال الفترة الممتدة من العصور الوسطى وصولاً إلى القرن الـ19، أمكن للناس العيش بسعادةٍ في مناطقهم من دون أن يعلموا أو يهتموا بالعالم الأوسع».
وأسهم تراجع كلفة إنتاج الخرائط في تحولها إلى أدوات عامة مُهمة بإمكانها صياغة فوضى المدن الحضرية الكبيرة في صور مفهومة، ثم صُممت خرائط الجيب لتلائم جيوب المعاطف، وأحدث الإنتاج الأرخص ثورة في رسم الخرائط، وازداد عمق التحولات نظراً للتوافر الواسع للتكنولوجيا الرقمية.
وأشار دوغان إلى تجربته حين فكر في كتابة قائمة بالخدمات المعتمدة على تحديد الموقع الجغرافي، التي قد تُستخدم خلال الأعوام الـ10 المُقبلة، لكنه اكتشف أن القائمة ستمتد بلا نهاية بسبب تعدد استعمالات الخرائط. وقال: «يستخدمها الناس للوصول إلى الغذاء، الترفيه، إرسال الصور، الفيديو، للسياسة.. توجد الخرائط في المزيد والمزيد من مناحي حياتنا، والآن نُنتج الخرائط لأنفسنا، وتتحول لتصير شخصية أكثر منها جماعية».
وربما يكون هذا هو التحول الأكثر أهمية في رؤية الناس للمدينة، بوضعهم في المركز دائماً؛ فلم يعد الأمر بحاجة لتحديد موضع المستخدم، بل تضعه الخرائط الرقمية بشكل افتراضي في قلب العالم بشكل نقطة زرقاء صغيرة على الشاشة، وتحيط بها ليس فقط المقاهي والمصارف، بل الصور والتغريدات والتجارب، وتسعى الخرائط لتوثيق الذكريات بربط لحظات الماضي بالأماكن التي جرت فيها؛ ويُشبه ذلك، بطريقة غريبة، بداية الخرائط.
ووفقاً لهاربر، لم تكن الخرائط الأولى أدوات للمساعدة على الملاحة والتنقل، بل رمز للافتخار، وعلق حُكام القرن الـ16 الخرائط في قصورهم لإظهار قوة دولهم ومنعتها.
وأشار هاربر إلى أصداء لذلك في الطريقة التي يُشجع بها الأشخاص على توثيق شخصياتهم الاجتماعية مكانياً، مثل الإشارة بصورهم على الخريطة للأماكن التي ترددوا عليها، كما لو كانوا يمتلكونها.
ويطرح ذلك سؤالاً عما إذا كان إحساس البشر بملكية ما حولهم إحساساً وهمياً، يُفقدهم تدريجياً إدراكهم للمدينة ككيانٍ شامل، بعكس تصفح الأطلس أو ثني خريطة سياحية كبيرة تمنح شعوراً ملموساً بحجم المدينة، كما لو كانت أطراف الصفحات هي حدودها، في حين لا توفر خاصية التكبير هذا الشعور.
وحالياً لم يعد كثيرون يمعنون النظر في الخرائط، بل يركزون فقط في الوصول بين نقطتين محددتين: «أ» و«ب»، ويبدو العالم خارج الخط الذي يرسم الاتجاه المحدد باهتاً جداً، وفي هذا الصدد يقول دوغان إن «التخلص من تلك الحاجة لمعرفة أين يوجد المرء بالغة»، معتبراً ذلك تغييراً يتصل بالاختلافات بين الأجيال.
وأضاف: «شخصياً لا أستطيع الآن استخدام الإحداثيات للتعرف إلى مكاني، أمكنني ذلك حين كنت شاباً، وحالياً لا يتعين عليّ ذلك، لذا لا أكلف نفسي عناء القيام به، وبالنسبة للأشخاص الذين ينشأون مع هذه الخدمات، فنادراً ما يفكرون في تلك العملية على الإطلاق».
وأسهم اكتساب الاتجاهات كثيراً من السمات الآلية في تماهي الحدود الفاصلة بين الانتقال في المدن الحقيقية والافتراضية، وسواء كانت القضية محاكاة الفن الحياة، أو اقتفاء الحياة لأثر الفن، وتحديد أيهما يسبق الآخر، فالواقع أن تغير الخرائط في العالم الحقيقي زامن تغير نظيرتها في الألعاب.
وقبل سنوات، زُودت كل لعبة بخريطة ورقية، لكن صار التنقل في الألعاب الحديثة مثل «غراند ثيفت أوتو في» و«سكرايم» يُعادل بساطة تتبع الخطوط على خريطة مصغرة، أو السير تجاه علامات التوقف المتوقعة التي تظهر في الأفق.
وتتسلل هذه التغييرات واسعة النطاق إلى العالم الحقيقي، وعلى سبيل المثال، يسمح برنامج «غوغل للتنقل» للمستخدمين بالحصول على اتجاهات صوتية عبر وضع السماعات في آذانهم، وبينما يقتربون من أحد التقاطعات يخترق صوتٌ آلي مساحتهم الخاصة التي ظلت حكراً على أصوات الراديو أو الموسيقى لتتراجع قيمة المدينة المفتوحة إلى مسار ضيق، فتبدو كما لو كانت جزءاً من لعبة.
وأشار مشرف رسم الخرائط الأثرية في «المكتبة البريطانية»، توم هاربر، إلى ارتباط هذا الشعور بتقييد التجول بالخرائط التي نشرها المترجم ورسام الخرائط الاسكتلندي، جون أوجيلبي، في القرن الـ17، الذي قدم أول أطلس للطرق في بريطانيا، وأطلق عليها اسم «خرائط القطاعات» Strip Maps، وتعامل مع الطرق كسلسلة من الشرائط أو القطاعات الطولية. وقال هاربر: «كل ما تراه على الخريطة هو الطريق، لا شيء على أي من الجانبين مهم ما لم يكن معلماً يُساعدك على التنقل، إنه بشكل لا يعقل مسار ضيق من العالم، خانق جداً».