بفضل الحجم المناسب للمدينة وجامعاتها المتميزة والتمويل المحلي والمساندة الحكومية
«بيتسبرغ» الأميركية تتحول إلى مركز عالمي مزدهر للتكنولوجيا
إذا ما تطرق الحديث إلى أهم مراكز التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وربما العالم، ترد في البداية أسماء مثل «وادي السيليكون» في ولاية كاليفورنيا، و«كامبريدج» في ولاية «ماساتشوستس»، و«سياتل»، و«أوستن»، و«نيويورك». وربما لا يتردد كثيراً اسم «بيتسبرغ» في ولاية «بنسلفانيا».
وفي الواقع، تُعد «بيتسبرغ»، التي يسكنها نحو 305 آلاف شخص، موطناً للعديد من الشركات الناشئة المُبتكرة، فضلاً عن أسماء معروفة منها «غوغل» و«أبحاث ديزني». ومما يدل على جاذبيتها في ما يتعلق بالتكنولوجيا إعلان شركة «آبل» أخيراً بحثها عن موقع لمقرها بمساحة تراوح بين 15 ألفاً و20 ألف قدم مربعة في منطقة «إيست إند» القريبة من جامعتيّ «بيتسبرغ» و«كارنيجي ميلون».
وقدّر «مجلس بيتسبرغ للتكنولوجيا» في تقريره لعام 2014 وصول الأشخاص العاملين في التكنولوجيا والمجالات الإبداعية المرتبطة بها إلى 177 ألف شخص، كما توقع تجاوز هذا العدد 200 ألف شخص بحلول عام 2020 في ضوء توقعات بتحقيق هذه القطاعات نمواً قوياً وغير معتاد في المدينة.
وتناول الكاتب جون تيرني في تقرير نشره موقع «ذي أتلانتيك» جانباً من العوامل التي أسهمت في تحول بيتسبرغ إلى مركز مميز للتكنولوجيا وبيئة مناسبة للشركات الناشئة، وهي عوامل تجمع بين الحجم المناسب للمدينة، واستضافتها عدداً من الجامعات المتميزة، والتمويل المحلي المشجع، فضلاً عن المساندة الحكومية.
وعدّ التقرير وجود جامعات قوية تعمل سوياً وتهتم بتحويل أبحاثها إلى منتجات تجارية أحد أسباب نجاح المدينة كبيئة نشطة لشركات التكنولوجيا، وهو أمر تشترك فيه بيتسبرغ مع مدن أخرى تتمتع بقطاعات تكنولوجية قوية مثل منطقة خليج سان فرانسيسكو، ومثلث الأبحاث في ولاية نورث كارولينا، وكامبريدج في منطقة بوسطن في ولاية ماساتشوستس.
وتضم منطقة «بيتسبرغ» الكبرى أكثر من 40 كلية وجامعة، إلا أن قطاع التكنولوجيا يعتمد أساساً على مؤسستين كبيرتين هما: «جامعة بيتسبرغ» و«جامعة كارنيجي ميلون».
وحلت الأولى في المركز السادس بين أكثر الجامعات الأميركية تلقياً للتمويل الحكومي للأبحاث في عام 2013، وتشتهر ببرامجها في العلوم الحيوية والصحية والهندسة وعلوم الـ«نانو» والفلسفة. بينما تُعرف «كارنيجي ميلون» بأبحاثها في علم الـ«روبوتات»، وكليتها لعلوم الكمبيوتر التي تحتل المرتبة الأولى، فضلاً عن جهات مثل «معهد ماساتشوستس للتقنية» و«جامعة ستانفورد».
وتتعاون الجامعتان سوياً، وهو اتجاه يدعمه التقارب الجغرافي بينهما لدرجة اختلاط مبانيهما معاً. وتتضمن بعض المشروعات المشتركة «مركز بيتسبرغ للحوسبة الفائقة»، و«معهد السرطان في جامعة بيتسبرغ»، و«مركز الأساس العصبي للإدراك»، و«بيتسبرغ لعلوم الحياة»، و«مركز بيتسبرغ لتعلم العلوم» الذي تدعمه «مؤسسة العلوم الوطنية» الأميركية.
وعبرت عن ذلك إيلانا دايموند، وهي رائدة أعمال ناجحة، أسست شركتها الخاصة، وتشغل حالياً منصب المدير الإدري لمسرعة الأعمال «ألفا لاب غير» المتخصصة في مجال العتاد والروبوتات، بقولها: «هناك حقاً تآزر رائع بين أوجه القوة في (جامعة كارنيجي ميلون) في ما يخص الروبوتات والبرمجيات والهندسة، وما يُقابلها في (جامعة بيتسبرغ) في ما يتعلق بالعلوم والطاقة والمواد والمجالات الأخرى للهندسة، إضافة إلى التطبيقات السريرية في (المركز الطبي لجامعة بيتسبرغ)».
ويُؤيد هذا الرأي، ريتش لونك، الذي أسس شركة ناجحة في «بيتسبرغ» قبل سنوات، ويشغل حالياً منصب الرئيس والرئيس التنفيذي لشركة «إنفوشن ووركس» التي تُعتبر أكبر مستثمر في الشركات الناشئة في مرحلة التمويل الأولي، وثالث أكثر المستثمرين نشاطاً في الولايات المتحدة. ولفت «لونك» إلى تقارب الجامعتين الكبيرتين في «بيتسبرغ» وهو ما يصعب تكراره في مكانٍ آخر باستثناء مدينة كامبريدج. كما أشار إلى تركيز الجامعتين على تحويل أبحاثهما إلى منتجات عملية تجارية، هو ما يظهر في تأسيس «جامعة بيتسبرغ» في عام 2013 «معهد ابتكار» لتعزيز نجاحها في ريادة الأعمال والطرح التجاري للمنتجات الجديدة والتطوير الاقتصادي.
ويظهر نجاح هذه المجهودات في بيانات «إنفوشن ووركس» التي تُشير إلى تضاعف عدد براءات الاختراع التي حصلت عليها تقنيات طُورت في الجامعات بين عاميّ 2009 و2013، وارتفاع عدد تراخيص التكنولوجيا والعقود والاتفاقات بنسبة تتجاوز 200%، وتأسيس أكثر من 80 شركة من الجامعات عبر الترخيص المباشر خلال الفترة نفسها.
وبطبيعة الحال، تحتاج المشروعات الناشئة إلى تمويل، وهو ما يتوافر في مدينة «بيتسبرغ» من خلال قاعدة تمويل محلية قوية تدعم مشروعاتها، وإن كان لا يُمكن أن يُعادل حجم رأس المال المتوافر للشركات الناشئة في منطقة خليج سان فرانسيسكو التي تضم «وادي السيليكون» بسمعته المعروفة، باعتباره تجمعاً لبعض من أهم شركات التكنولوجيا في العالم.
وبحسب «لونك»، انطلقت صناديق للتمويل المغامر، للمرة الأولى في «بيتسبرغ» في منتصف تسعينات القرن الـ20، وفي الوقت نفسه بدأت الجامعات تأسيس مكاتب لنقل التكنولوجيا، وأسهمت أيضاً عناصر أخرى للبُنى التحتية الداعمة للتكنولوجيا.
وفي الوقت الذي تحتفظ فيه شركات التمويل المغامر المحلية، مثل «آدامز كابيتال» و«بيرشمر فنتشرز» و«درابر ترينجل» بأهميتها، تجتذب الشركات الناشئة في «بيتسبرغ» بشكلٍ متزايد تمويلاً خارجياً، بحسب ما قالت الرئيسة التنفيذية لمجلس «بيتسبرغ» للتكنولوجيا، أودري روسو.
وقال ريتش لونك من «إنفوشن ووركس» أنه بالعودة إلى نهاية التسعينات، كان نصيب شركات «بيتسبرغ» من تمويل المستثمرين من خارج المدينة يحل في مرتبة تالية لمدن «هارتفورد»، و«كونيتيكت»، و«روتشستر»، و«نيويورك»، بينما اليوم وقياساً على نصيب الفرد، يحل ثالثاً بعد كلٍ من «بوسطن» و«أوستن».
وأشارت روسو إلى الدور الحكومي كأحد أسباب ازدهار القطاع التكنولوجي في «بيتسبرغ»، وقالت إنه لا ينبغي إغفال دور حكومة المدينة واتحاد ولاية بنسلفانيا الذي ساند المبادرات التكنولوجية خلال فترة تتجاوز 30 عاماً من خلال برنامج «شركاء بن فرانكلين للتكنولوجيا» Ben Franklin Technology Partners الذي استهله حاكم الولاية ريتشارد ثورنبرج في الثمانينات.
ويُعد برنامج «شركاء بن فرانكلين للتكنولوجيا» أحد أقدم برامج التنمية الاقتصادية المستندة على التكنولوجيا في الولايات المتحدة، ويمد الشركات سواءً الناشئة أو الراسخة بالتمويل والخبرة التجارية والفنية، ويربطها بشبكة من خبرات الابتكار. وتُعتبر «إنفوشن ووركس» التي يترأسها ريتش لونك شريكاً للبرنامج في منطقة بيتسبرغ. ويأتي برنامج «كيستون إنفوشن زون» كأحد المجهودات الجديدة في هذا الشأن من ولاية بنسلفانيا، ويرمي إلى دعم نقل التكنولوجيا وريادة الأعمال.
ويُمكن فهم تأثير هذه العومل مجتمعة، أي وجود جامعتين مُتميزتين على المستوى العالمي، وتطور نظم تمويل الشركات الناشئة والمساندة الحكومية، لكن وبحسب ما كتب جون تيرنر، أشار جميع من تواصل معهم إلى عامل رابع مُثير للاهتمام، وهو صغر المدينة، وهو ما يُسهل إدارتها ويجعل منها مكاناً ودياً وجذاباً.
واعتبر ريتش لونك أن مدينة «بيتسبرغ» تتمتع بحجمٍ مناسب لرائد الأعمال، إذ يمكنه الانتقال إليها وتأسيس شركة مع علمه بوجود الكثير من الشركات الأخرى التي ستُحقق ما يُشار إليه في الاقتصاد باسم «الهبوط السلس»، أي تباطؤ النمو دون الوصول إلى الركود، إذا لم تمض الأمور على نحوٍ جيد.