خبير يدعو إلى عدم الاكتفاء بالاستعانة بأدوات تقنية لتدريس المناهج
التكنولوجيا تغيّر نظام الفصول الدراسية
يتجاوز دور التكنولوجيا في التعليم مجرد الاستعانة بالحواسيب وتطبيقاتها والكتب الإلكترونية، إلى دورها في تغيير طريقة العمل في الفصول الدراسية، التي احتفظ فيها المعلمون أغلب الوقت بموقعهم التقليدي في مقدمة غرف الدراسة، لتوجيه الطلاب إلى ما يتوجب عليهم فعله.
ويرى الخبير التربوي والمؤلف الأميركي، مارك برنسكي، أن مناهج الدراسة وطرقها لم تتغير كثيراً منذ القرن الـ19، وقال خلال معرض «بيلت»، أو «المعرض البريطاني لتكنولوجيا التعليم والتدريب»، المخصص لتكنولوجيا التعليم الذي أقيم في يناير الماضي: «يحتاج العالم إلى منهج جديد، علينا إعادة النظر في مناهج القرن الـ19».
ويعتقد برنسكي بالحاجة إلى نواة جديدة للمواد الدراسية، تركز على المهارات التي تجهز المتعلمين اليوم للعمل في الغد، وتتضمن مهارات حل المشكلات والتفكير الإبداعي والتعاون.
وعلى مدى قرون، واجهت التغيرات الجذرية في الأساليب التربوية مشكلة متكررة؛ إذ لا يرغب أي جيل من الآباء في أن يخضع أبناؤهم لتجربة طرق جديدة من التدريس؛ ومع ذلك يعتقد برنسكي بوجود هامش ضئيل للاختيار؛ نظراً لحياتنا في عصرٍ من التغيير المتسارع، يحتم علينا التجربة للتعرف إلى الأساليب المجدية.
وقال: «نحن مشاركون من البداية في عالم يعج بالخيال والإبداع والابتكار والمعرفة الرقمية، سيكون علينا تأسيس تعليم المستقبل، لأنه لا يوجد في أي مكان في الوقت الراهن».
وفي الواقع، يجري تغيير التعليم حالياً داخل الفصول الدراسية التقليدية بتعديل شكلها المستقر منذ قرون، ومن ذلك ما يعرف باسم «الفصل الدراسي المقلوب أو المعكوس» Flipped Classroom كأحد أشكال «التعلم المدمج»، الذي يشمل استخدام التكنولوجيا داخل الفصول الدراسية.
وبينما يعتمد النمط التقليدي من التعليم على التدريس في الفصل وأداء الطلاب واجباتهم الدراسية في المنازل، يبدأ الطلاب في هذا النظام بالدراسة بأنفسهم، من خلال دروس الفيديو التي أعدها المعلم أو غيره ومن خلال الإنترنت، ويمكنهم التقدم فيها بمعدل يراعي مستواهم وقدراتهم، ليجري استغلال وقت الحصص الدراسية في أداء الواجبات والنقاشات.
ويكتسب «الفصل الدراسي المقلوب» شعبية متزايدة في مدارس الولايات المتحدة، ويساعد في تقوية العلاقة بين المعلم والطلاب، كما يعزز فكرة التعلم الذاتي، ويراعي إلى حد كبير الفروق الفردية بين الطلاب، ويشجع على تحقيق استفادة أفضل من التقنيات في التعليم.
ويعد الهندي الأميركي، سلمان خان، واحداً من رواد «الغرف الدراسية المقلوبة»، وبدأ في عام 2004 بنشر دروس في الرياضيات على موقع «يوتيوب» لأبناء عمومته الشباب، ما قاده لاحقاً إلى تأسيس «أكاديمية خان»، وهي مؤسسة لا تهدف إلى الربح، وتوفر مقاطع فيديو تعليمية لمناهج كاملة في الرياضيات وغيرها من المواد.
ولفت المشروع اهتمام وزارة التعليم الأميركية، التي تدير حالياً تجربة بميزانية قدرها ثلاثة ملايين دولار، لاختبار كفاءة هذه الطريقة.
وتجري تجربة «الفصول الدراسية المقلوبة» في المملكة المتحدة، وتحديداً في مدرسة «سودبري» الابتدائية في مقاطعة سوفولك، وأشار رئيس قسم تكنولوجيا المعلومات في المدرسة، محمد طالباني، إلى السهولة التي لمسها المعلمون في هذه الطريقة التي أعفتهم من الوقوف أمام الطلاب، وإخبارهم بما يتعين عليهم القيام به، إضافة إلى التعرف على قدرة التلاميذ على التعلم من تلقاء أنفسهم، وبالحد الأدنى من التدخل.
وتزيد أهمية هذا الأسلوب في التدريس كثيراً في العالم النامي، الذي يوجد فيه ما يصل إلى 57 مليون طفل، لا يتمكنون من الذهاب إلى المدارس الابتدائية؛ وبالتالي فإن فكرة تعلم الأطفال من دون الحاجة إلى تدخل كبير من البالغين، تعد ضرورة أكثر منها ترفاً. وسبق أن جرب البروفيسور سوجاتا ميترا فكرة التعلم الذاتي عبر تجاربه الرائدة «ثقب في الجدار» Hole in the Wall في الأحياء الفقيرة من مدينة دلهي الهندية عام 1999، وبدأها بوضع حاسب داخل كشك صغير في أحد أحياء دلهي مع كاميرا صغيرة، وسمح للأطفال باستخدامه مجاناً وبحرية تامة. واستهدف ميترا، الذي يدرس تكنولوجيا التعليم في كلية التعليم والاتصال وعلوم اللغة في «جامعة نيوكاسل» البريطانية، إثبات إمكانية تعلم الأطفال بواسطة الحواسيب من دون تدريب، وتغيير النظام التعليمي الذي يعتمد أساساً على أفكار تعود للعصر الفيكتوري في القرن الـ19، واستهدف أصلاً تخريج أشخاص متشابهين يمكنهم القراءة والحساب.
وخلال أيام، تمكن الأطفال من تعلم كيفية نسخ ولصق النصوص والسحب والإفلات وإنشاء المجلدات، كما أقبلوا على برنامج «مايكروسوفت بينت» أو «الرسام»، وبدأوا بعدها في تحميل الألعاب والأغاني من الإنترنت، وتعليم بعضهم بعضاً موضوعات العلوم وغيرها، وتمكنوا سريعاً من تعلم كيفية استخدام الحاسب من دون توجيه من البالغين، على الرغم من معيشتهم في مناطق فقيرة، وعدم إجادتهم للغة الانجليزية، بشكل أدهش ميترا.
ولاحظ ميترا تحسن أداء الأطفال بحضور أحد البالغين لتقديم التشجيع والنصح، ومنها ولدت فكرة «بيئات التعلم الذاتي ذاتية التنظيم» Self-Organized Learning Environments والمعروفة باسم «سحابة الجدات» Cloud Grannies، وتعتمد على التعلم الذاتي من خلال التوجيه عن بعد.
واستعان ميترا بأعداد من البريطانيات المتقاعدات، اللاتي تطوعن لإرشاد الأطفال في الهند عن بُعْد عبر الإنترنت، ولا تعد هذه الجلسات حصصاً دراسية، كما لا تعمل السيدات بالتدريس، ويتحدثن خلالها عن أنفسهن والمملكة المتحدة.
وقد فاز ميترا في عام 2013 بجائزة «تيد» بقيمة مليون دولار، لبناء سلسلة من بيئات التعلم الذاتي في الهند والمملكة المتحدة.
وفي يناير الماضي، أتم البروفيسور ميترا تأسيس آخر وحدة من بين سبع وحدات مماثلة للتعلم الذاتي وسط النباتات المورقة في قرية جوشاران في ولاية البنغال الغربية، وتتألف من مبنى زجاجي يعتمد على الطاقة الشمسية، ويضم ما يصل إلى 40 طفلاً يمكنهم المشاركة في الوقت الملائم لهم، والانتظام في مجموعات صغيرة، وتلقي التوجيه من الجدات أو الوسطاء الإلكترونيين عبر برنامج «سكايب».
وقال مدير الأبحاث في مشروع «سحابة الجدات»، الدكتور سونيتا كولكارني، إن «الأطفال ينخرطون في أداء مجموعة متنوعة من الأنشطة بدافع من اهتمامهم وفضولهم، كما يطلب منهم الإجابة عن أسئلة كبيرة من خلال الاستعانة بالإنترنت، وتنبع هذه الأسئلة في بعض الأحيان مما يتساءلون عنه، وهي المرحلة التي تلعب فيها الجدات أو الوسطاء الإلكترنيون دوراً مهماً».