شركات تُعيد تقديم نفسها مع صعود الهواتف الذكية
لم تعُد تقنيات الهواتف الذكية حكراً على مصنّعيها وشركات التكنولوجيا والإنترنت، بل امتد الاهتمام بها لشركات تعمل في مجالات تقليدية، بعدما أدرك مُديروها أن استمرارها هو رهنٌ بتقديم رؤية جديدة وتغيير منتجاتها وخدماتها لتلبية الاحتياجات الرقمية المتزايدة للمستهلكين، ومواجهة منافسة من شركات التكنولوجيا الكبيرة والمبتدئة.
وتجلّى هذا الاتجاه خلال المؤتمر العالمي للجوال الذي أقيم أخيراً في مدينة برشلونة الإسبانية، وحضره أكثر من 93 ألف شخص، جاء كثيرٌ منهم من قطاعات تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن تقنيات المحمول، ومنها مصرف «بي بي في إيه»، وشركة «فورد» للسيارات، و«أندر أرمور» للملابس الرياضية، وذلك إلى جانب عمالقة التكنولوجيا والشركات الناشئة.
وبالنسبة لمصرف «بي بي في إيه»، أحد المصارف الكبيرة في إسبانيا، فيقف في مواجهة شركات مثل «غوغل» و«أبل»، فطرحت كلٌ منهما نظاماً يُتيح للمستهلكين الدفع مقابل البضائع بواسطة هواتفهم الذكية، إلى جانب منافسة أخرى مع المصارف الرقمية الجديدة التي تُوفر للمستهلكين حسابات على الإنترنت دون رسوم، فضلاً عن تقديم الشركات الناشئة لخدمات مالية طالما شكلت محور عمل المصارف التقليدية، مثل إقراض الشركات وإدارة الثروات.
ويبدو الاختلاف كبيراً بين الوضع الراهن للمصارف والتكنولوجيا وستينات القرن العشرين حين بدأ الرئيس التنفيذي الحالي لمصرف «بي بي في إيه»، فرانسيسكو غونزاليس، عمله مهندساً للبرمجيات في شركة «آي بي إم» الأميركية، فحالياً يتنافس المصرف مع شركات وادي السيليكون وخارجه على النجاح في مجال الهواتف الذكية.
وتتسم الهواتف بإمكانات أكبر وقدرة على الانتقال تفوق حواسيب «مين فريم» الكبيرة التي عمل غونزاليس في تطوير برامجها سابقاً، وقال على هامش المؤتمر العالمي للجوال: «خلال السنوات القليلة المُقبلة، سيكون هناك طبقة جديدة من المنافسين»، لافتاً إلى وصول تأثير العالم الرقمي لجميع القطاعات، بحسب ما تضمن تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية أخيراً.
وفي الوقت الحاضر، تُواجه مجالات العمل الأقدم تحدياً بحاجتها إلى الدعم السريع لإمكانات المحمول في خدماتها ومنتجاتها، قبل أن تتمكن الشركات الناشئة أو الراسخة، مثل «فيس بوك» و«غوغل» من التغلب عليها، وتتعدد الأمثلة على تغيير خدمات جديدة مجالات عمل مستقرة لعقود متتالية.
وعلى سبيل المثال، غيّر تطبيق «أوبر» لحجز واستدعاء سيارات الأجرة كثيراً في هذا المجال، وكذلك بالنسبة لموقع «إيربي إن بي» الذي يُتيح لملاك العقارات باختلاف مستوياتها وأنواعها تأجيرها، ما دفع بهم إلى منافسة مباشرة مع الفنادق التقليدية على جذب المسافرين الباحثين عن أماكن ميسورة الكلفة للإقامة.
وأسهمت التطورات التقنية الحالية في تيسير تأسيس الشركات وخفضت من تكاليف تشغيلها، ويُشار في ذلك إلى دور الحوسبة السحابية التي تُتيح تخزين قدر ضخم من البيانات واستعادتها عبر الإنترنت. وفي ضوء ذلك، يُشير مراقبون إلى أهمية أن تُعيد الشركات الراسخة النظر في طريقة عملها، ودون ذلك قد تُخاطر بفقدان أهميتها ومكانتها لدى المستهلكين الذين يتزايد اعتمادهم على الهواتف الذكية في مختلف جوانب حياتهم اليومية.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة «إريكسون» السويدية لتصنيع معدات الاتصالات والشبكات اللاسلكية، هانز فيستبرغ: «يجري تحويل صناعات بأكملها بين عشية وضحاها، يتعين على هؤلاء إعادة اختراع أنفسهم».
وعموماً لن تكون هذه المرة الأولى التي تضطر فيها قطاعات كثيرة للإسراع للتكيف وتغيير طريقتها في العمل بدافع من تقنيات رقمية جديدة، ففي تسعينات القرن العشرين، مثلت شركات مثل «أمازون» النداء الأخير لتنبيه العديد من مكتبات «مين ستريت» التي لم تستطع مجاراة تعدد المعروضات والتكاليف المنخفضة لعملاق التجارة الإلكترونية.
كما أدى إطلاق «أبل» لمتجر «آيتونز» في عام 2003 إلى تحويل صناعة التسجيلات الموسيقية إلى أثر من الماضي، وسرع نمو «نيتفليكس» لبث الفيديو والأفلام على الإنترنت من نهاية منافسيه من مُقدمي الخدمات التقليدية لتأجير الأفلام مثل «بلوكبستر».
وربما تجد بعض الشركات القديمة بعض العزاء في تذكر النهاية الحزينة لعدد من مشروعات عصر «الويب»، وإخفاقها في احتلال مكانة نماذج العمل الراسخة، لاسيما قصة موقع «بيتس دوت كوم» Pets.com الذي اعُتبر أحد أكبر كوارث الفترة المعروفة باسم «فقاعة دوت كوم»، وانطلق الموقع المتخصص في بيع مستلزمات الحيوانات الأليفة في عام 1998 مدعوماً بحملات إعلانية قوية كلفت ملايين الدولارات وشهرة سريعة، لكن كان كل ذلك في غياب نموذج عمل واضح وعملي، ما انتهى بخسائر كبيرة وإغلاق الشركة في عام 2000.
لكن يبدو الأمر هذه المرة مختلفاً، إذ منح الصعود السريع للهواتف الذكية وتطبيقات المحمول وتيرة التغيير سرعةً فائقةً، كما أسهم تراجع أسعار الهواتف الذكية، إذ تبدأ أسعار بعض الطرز من 25 دولاراً، وتوافر مستويات متفاوتة من الأسعار في إتاحتها لملايين الأشخاص في الأسواق المتقدمة والناشئة على حد سواء، وأتاح للملايين الاتصال بالإنترنت للمرة الأولى.
ويرى محللون أن الشركات التي استغلت مبكراً تقنيات المحمول، سواء كانت من المؤسسات الراسخة أو المبتدئة، قد تشهد نمواً سريعاً، ويُمكن اعتبار «أوبر»، التي تعتمد على الهواتف الذكية لربط سائقي سيارات الأجرة بالركاب، نموذجاً لذلك. وقدر مستثمرون قيمة «أوبر»، التي تأسست في عام 2009، بما يزيد على 40 مليار دولار، أي ما يُعادل ضعفيّ القيمة الأولية لشركة «غوغل» عند طرح أسهمها في سوق «ناسداك» للأوراق المالية في عام 2004.
وقالت الرئيس التنفيذية لمجلس إدارة شركة «موزيلا»، ميتشل بيكر، في مقابلة على هامش المؤتمر العالمي للجوال: «الهاتف الذكي هو ما يقود الأمور في الوقت الراهن. يسمح للأشخاص بالاتصال بمن يريدون في أي مكان».
ومن بين دلائل التأثير الواسع للهواتف الذكية حضور «فورد» وما لا يقل عن أربع شركات لإنتاج السيارات في المؤتمر العالمي للجوال، وروجت الشركة الأميركية لمزايا مشروعاتها للسيارات المتصلة بالإنترنت، ضمن مساعيها لمواجهة خطط كل من «غوغل» و«أبل» لتقديم نظم تشغيل تسمح للسائقين بالتحكم في إدارة لوحة عدادات السيارات، وتوفر تطبيقات للهواتف الذكية أثناء القيادة.
كما كشفت شركة «أندر أرمور» للملابس الرياضية عن تعاونها مع شركة «إتش تي سي» التايوانية للهواتف الذكية لطرح ساعة ذكية يُمكنها متابعة أداء المستخدم لتمرينات اللياقة البدنية وترتبط بالشبكات الاجتماعية، ويُعقب ذلك استحواذ «أندر أرمور» الشهر الماضي على شركتين لتطبيقات متابعة اللياقة البدنية بمبلغ إجمالي بلغ 560 مليون دولار.
ولا تدخر شركات المنتجات الاستهلاكية جهداً للتأكيد على حماسها لتقنيات الهواتف الذكية، وخلال المؤتمر الأخير عرضت شركة «بروكتر أند جامبل» الإصدار الأحدث من فرشاة أسنان «أورال بي» المرتبطة بتطبيق للهواتف الذكية تنقل إليه بيانات عن مدى جودة ومعدل تنظيف المستخدم لأسنانه.
ويتساءل بعض المحللين عن عدد الشركات التقليدية التي يُمكنها إعادة هيكلة نُظم عملها في الوقت المناسب لمواجهة منافسين أصغر وأكثر شباباً بمقدورهم الاستفادة السريعة من الاتجاهات الحديثة في التكنولوجيا. كما يُشكك آخرون في مدى استعداد الشركات الراسخة على الاستثمار بسخاء في التقنيات الجديدة التي قد تستلزم تغيير عملها بشكل جذري، في ظل ضغوط حساب التكاليف وتيسير أعمالها القائمة.