الخبراء يقرون بآثار الاستعانة بالبرمجيات وتقنيات الذكاء الاصطناعي في التوظيف واستبدال العاملين من البشر بأدوات آلية تُجيد أداء المهمة بالطريقة نفسها. أرشيفية

البرمجيات تتولى وظائف البشر فعلياً

تتعالى أصوات بين حينٍ وآخر بالتحذير من الآثار السلبية لتقنيات الذكاء الاصطناعي، ومنها احتمال استحواذ تطبيقاتها الرخيصة والسريعة على وظائف ظلت دائماً حكراً على البشر. لكن المشكلة أن الأمر لا يتعلق بتصورات لما سيجري في المستقبل، لكن بواقع قائم سواء لاحظنا ذلك أم لا.

ولا يقتصر الأمر على إنجاز الآلات للمهام الرتيبة والمتكررة في المصانع، بل تطور الأمر إلى برمجيات يُمكنها ملاحظة محيطها والتعلم مما يجري فيه، ما يُتيح لها أداء مهام طالما استأثر بها البشر مثل خدمة المتعاملين في الشركات وإجراء الأبحاث القانونية، وربما تشمل قريباً قيادة السيارات والتحليل المالي. وفي حين لا تحمل هذه النظم، حتى الآن على الأقل، تهديداً باستبعاد الجنس البشري، إلا أنها تُثير تحدياً، ففي حال أدت البرمجيات عمل البشر، فما الذي سيقومون به حينها؟

 

برمجية «بلو بريزم»

وخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، أسندت شركة «أو 2» للاتصالات في المملكة المتحدة إلى برمجية آلية مكان مهام 150 من العاملين فيها. وبحسب ما قال المسؤول عن تحسين عمليات الشركة، واين بترفيلد، فإن جانباً كبيراً من خدمة المتعاملين في «أو 2» ينجز بطريقة آلية، مثل طلب تغيير شريحة الاتصال، ونقل الأرقام، والتحويل من نظام الدفع المسبق إلى التعاقد.

واعتاد البشر نقل البيانات يدوياً بين الأنظمة ذات الصلة لاستكمال مثل هذه المهام، مثل نسخ رقم هاتف من قاعدة بيانات إلى أخرى. وبينما لا يزال يتوجب على المتعاملين الاتصال بقسم الخدمات والتحدث إلى أحد الموظفين، فإن البرمجيات القائمة على الذكاء الاصطناعي تتولى إتمام العمل الفعلي، بحسب ما تضمن تقرير نشرته مجلة «نيو ساينتست» العلمية.

ويعتمد تدريب هذه البرمجيات، على مشاهدتها للموظفين من البشر، وتعلمها من المهام البسيطة والمتكررة التي تجري حولها، ومن خلال الوصول إلى قدرٍ كافٍ من التدريب، يُمكنها العمل من تلقاء نفسها وفق ما تعلمته. وطورت البرمجيات التي تستخدمها «أو 2» شركة «بلو بريزم» الناشئة Blue Prism.

وقال رئيس «بلو بريزم»، جاسون كينجدون، مشيراً إلى أدوات الذكاء الاصطناعي: «يتنقلون عبر بيئة افتراضية»، لافتاً إلى أنها تُقلد ما يقوم به الإنسان بالضبط لدرجة يبدو معها عملها جنونياً بعض الشيء؛ فتكتب وتنبثق نوافذ مصغرة على الشاشة، كما تُجري عمليتيّ قص ولصق النصوص.

وجرب مصرف «باركليز»، واعتمد على أدوات طورتها «بلو بريزم» لإدارة عدد ضخم من طلبات المتعاملين التي انهالت عليه بعد قرار للجهات التنظيمية البريطانية بسداد المصرف مليارات الجنيهات الإسترلينية مقابل عقود تأمين جرى بيعها بشكلٍ مُضلل. وبدلاً من التكاليف المادية الكبيرة التي تتطلبها الاستجابة لفيضٍ مُفاجئ من الطلبات، استخدم المصرف برمجية «بلو بريزم» لإدارة بعض الطلبات البسيطة، ما سمح له بتوظيف عدد أقل من الأشخاص.

 

بحوث قانونية

وفي حين يبدو العمل الذي تُنجزه أدوات «بلو بريزم» رتيباً ومملاً، إلا أنه لا يُمثل الحد الأقصى لما يُمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي إنجازه في مكاتب العمل. وفي يناير الماضي، بدأت شركة «روس» ROSS الكندية بالاعتماد على إمكانات الكمبيوتر الفائق «واتسون» من شركة «آي بي إم» الأميركية، لإجراء بحوث قانونية آلياً، وهي مهمة غالباً ما يُؤديها مساعدون مبتدئون للمحامين.

وفعلياً تتوافر أدوات للأبحاث القانونية، إلا أنها لا تتجاوز البحث بوساطة كلمات مفتاحية، لينتهي ذلك إلى إظهار قائمة من الوثائق قد تتصل بموضوع القضية أو لا، ويحتاج المحامون إلى التدقيق فيها للوصول إلى الحجة الملائمة.

وعلى العكس من ذلك، تُقدم «روس» إجابات قانونية لأسئلة محددة، مع الاقتباس من الوثائق القانونية على غرار ما يقوم به الباحثون من البشر، فضلاً عن تحديد مستوى الثقة بكل إجابة. وحتى الآن ركزت على القضايا المتعلقة بالقانون الكندي، إلا أن الرئيس التنفيذي للشركة، أندرو أوردا، يُخطط لتتمكن الأداة من استيعاب القوانين في مختلف أنحاء العالم.

ونظراً إلى تخصص «روس» في المجال القانوني، فإنها تخلص إلى إجابات محددة وجافة قليلاً.

وقال أرودا إنه من خلال إنهاء «روس» للعمل الرتيب والشاق للمحامين، فإنها ستُتيح لهم مزيداً من فرص العمل؛ لتقليلها الوقت الذي يحتاجون إليه لإتمام كل قضية، كما قد تُوفر المساعدة القانونية للأشخاص الذين يحتاجون إلى محامٍ من دون أن يتمكنوا من تحمل تكاليفه.

ويُمكن لأداة «روس» إجراء البحث على نطاق أوسع وأسرع مما يُمكن للبشر القيام به. وقال أرودا إن ذلك لا يعني فقط الحصول على إجابات يصعب على العاملين من البشر التوصل إليها، وإنما أيضاً إمكانية البحث في مجالات لا يُفكر البشر عادةً في التطرق إليها. وأضاف أن بمقدور المحامين البدء بصياغة حجج ثاقبة لم يُتح لهم إنجازها من قبل. ولاحقاً قد تتحسن قدرة «روس» في الإجابة عن أنواعٍ محددة من المسائل القانونية، ما يسمح لها بإدارة قضايا بسيطة من تلقاء نفسها.

وعلى غرار تعلم أدوات «بلو بريزم» وتكيفها مع واجهات البرمجيات المُصممة للعاملين من البشر في المؤسسات الكبرى، تتعلم أدواة «روس» وتعتاد اللغة القانونية التي يستخدمها المحامون في المحاكم والشركات، وتستعين في ذلك بإمكانات معالجة اللغة الطبيعية في «واتسون» لتحليل 10 آلاف صفحة من النصوص خلال ثانية واحدة، قبل إظهار أفضل إجابة، فضلاً عن تصنيفها حسب درجة الوثوق بها.

 

المجال الطبي

وفي السياق نفسه، تُطور شركة «نوانسي كومينكشنز» Nuance Communications في ولاية ماساتشوستس الأميركية، أدوات تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتختص بحل بعض مشكلات اللغة مثل «روس»، لكن في المجال الطبي.

وتتخصص برمجية «نوانسي» في إنجاز مهمة معتادة في مستشفيات الولايات المتحدة، فبعد أن ينتهي الأطباء وفريق التمريض من كتابة الوصف الطبي للحالة المرضية، يُحاول متخصص التوفيق بين الوصف الطبي وآلاف من رموز الفواتير لأغراض التأمين. وحالياً يُمكن لأداة «نوانسي» فهم الملاحظات والتعرف على الرمز الملائم لكل حالة، ويستخدمها بالفعل عدد قليل من المستشفيات الأميركية.

وفي ما يتعلق بآثار الاستعانة بالبرمجيات وتقنيات الذكاء الاصطناعي في التوظيف، يُقر كينجدون، من شركة «بلو بريزم»، بالآثار المترتبة، وباستهدافها استبدال العاملين من البشر بأدوات آلية تُجيد أداء المهمة بالطريقة نفسها.

 

مرحلة تغيير

ويدفع ذلك إلى التساؤل عن حال العالم حين يجد البشر أنفسهم محاطين يوماً بعد آخر بمزيد من أدوات الذكاء الاصطناعي في العمل. وأشار الخبير الاقتصادي في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، ديفيد أوتور، إلى أن الاستعانة بالآلات طالما حدّت من الأعمال الرتيبة، وأتاحت للأشخاص القيام بعمل أكثر إثارة للاهتمام، لافتاً إلى مثال يتعلق بمهام خطوط التجميع في المصانع قديماً، مثل ربط الأغطية حول الزجاجات، وهي أمور تتولاها الآلات حالياً، وقال: «حياتنا في العمل أكثر أماناً وإثارةً للاهتمام مما كانت عليه من قبل».

وتطرح الصور الجديدة من الاستعانة بالبرمجيات الآلية، كحال «بلو بريزم» و«بلو»، مُشكلةً جديدة؛ لارتباطها بأنواع من الوظائف قد تكون في مطلع المسار المهني داخل الشركات، ما قد يهدد بتعميق عدم المساواة، وتقليل فرص العمل. وفي ذلك، يظل أوتور متفائلاً حيال دور الإنسانية في المستقبل التي تُؤسسه، محذراً في الوقت نفسه من غياب ما يُمكنه إيقاف هندسة أمور ستحتل مكانة البشر، فضلاً عن تزايد الفوارق بين الأغنياء والفقراء. وقال أوتور: «لم نشهد من قبل بطالة واسعة النطاق بسبب التكنولوجيا، لكن قد يكون الأمر مُختلفاً هذه المرة.. لا يوجد ما ينفي إمكانية حدوثها».

من جانبه، قال رئيس «بلو بريزم»، جاسون كينجدون، إن التغييرات قد بدأت، متوقعاً أن يعتاد الجميع خلال السنوات القليلة المُقبلة على تقنيات الذكاء الاصطناعي التي ستُوجد في كل مكتب.

 

الأكثر مشاركة