على الرغم من التطور التقني وانتشار الأجهزة الإلكترونية الشخصية
الورق يحتفظ بمكانته أداةً رئيسةً في مكاتب العمل
منذ سبعينات القرن العشرين، بدأ التبشير باقتراب عصر مكاتب العمل الخالية من الأوراق، والتحول الكامل تجاه السجلات الرقمية ابتداءً من التسعينات، لكن ذلك لم يتحقق، واحتفظ الورق إلى حد كبير بمكانته، على الرغم من التطور التقني وانتشار الأجهزة الإلكترونية الشخصية.
ومن بين أبرز الأسباب التي حافظت على بقاء الورق، الكلفة الرخيصة نسبياً، فتوزيع الأوراق يظل أقل كلفة من الأجهزة الإلكترونية، كما أن لخدمات الحوسبة السحابية التي تعتمدها الكثير من الشركات تكاليفها أيضاً. ويُضاف إلى ذلك الألفة والرابطة العميقة التي نشأت بين البشر واستخدام الأوراق والأقلام على مدى قرون.
وأشار الرئيس التنفيذي لشركة «مولسكين» Moleskine الإيطالية لصناعة الورق، أريغو بيرني، إلى تفوق الورق والكتابة اليدوية على النقر على لوحة المفاتيح في ما يتعلق بالكتابة من منظورٍ شخصي.
وأخيراً شاركت «مولسكين» في مؤتمر «تيد» TED، وهو اسم يجمع بين الحروف الأولى من كلمات التكنولوجيا والترفيه والتصميم، في مدينة فانكوفر الكندية، وتحدث بيرني عن مزايا الورق، وإمكانية استمراره إلى جانب البدائل الرقمية.
وللوهلة الأولى، قد يبدو الورق ضيفاً غريباً في مؤتمرات «تيد» التي طالما اشتهرت بعرض أفكار التقنية المتقدمة، لكن دفاتر الملاحظات صارت علامة مميزة لحقيبة الهدايا التي توزع خلال المؤتمر، ويستخدمها الحاضرون لتسجيل ملاحظاتهم على الأحاديث التي يستمر كلٌ منها 18 دقيقة.
ولفت بيرني إلى حاجة كل شخص لتسجيل الملاحظات، لاسيما في مؤتمرات «تيد» التي تُعقد تحت شعار «أفكار تستحق الانتشار».
وقال: «سيظل الورق دائماً، ويُساعد في التعبير عن جزء أساسي من التجربة الإنسانية»، ومع ذلك، أقر بيرني بالمنافسة الشديدة التي تُمثلها الأدوات الرقمية للورق، الأمر الذي يُفسر تعاون «مولسكين» مع شركات مثل «أدوبي» و«لايف سكرايب» المنتجة للأقلام الإلكترونية، كما عقدت في عام 2012 شراكة مع شركة «إيفرنوت» صاحبة تطبيق تسجيل الملاحظات على الحواسيب والأجهزة المحمولة الذي يحظى بـ100 مليون مستخدم.
وقدمت «مولسكين» و«إيفرنوت» دفتراً ذكياً لتسجيل الملاحظات يجمع بين الورق والأجهزة الرقمية، وسمح للمستخدمين بتصوير أوراقهم المكتوبة ودمجها ضمن تطبيق «إيفرنوت»، بما يحول الأوراق إلى محتوى رقمي يمكن البحث خلاله بيسر، كما تضمن ملصقات ذكية تُتيح للمستخدمين تصنيف ملاحظاتهم بسهولة.
وتُعتبر دفاتر الملاحظات الذكية محاولة لسد الفجوة الفاصلة بين العوالم الفيزيائية والرقمية، كما تمثل جزءاً من اتجاه متنامٍ يسعى لتقليل الهدر والمشكلات الناجمة عن تكدس الأوراق، ولا يقتصر ذلك على مكاتب العمل والملفات المكتوبة، ويُمكن لمس تراجع الأوراق في مناحٍ مختلفة من الحياة اليومية.
وعلى سبيل المثال، تراجع إلى حد كبير أعداد قراء الصحف الورقية في المواصلات العامة مُقابل كثيرين يركزون أعينهم على شاشات الهواتف الذكية والحواسيب اللوحية للتعرف إلى الأخبار والقراءة واللعب وتصفح الإنترنت.
كما تراجع استخدام التذاكر الورقية والأموال النقدية لمصلحة التذاكر الرقمية وبطاقات الائتمان وحلول دفع الأموال عبر الأجهزة المحمولة، ويسمح عدد متزايد من الهيئات الحكومية في الكثير من أنحاء العالم للسكان بالحصول على الخدمات عبر الوسائط الإلكترونية.
ووفقًا للجمعية الأميركية للغابات والورق، تراجعت الشحنات الأميركية من الورق بنسبة 5% خلال فبراير الماضي، مُقابل الفترة نفسها من العام الماضي. وتُشير تقديرات أخرى إلى تراجع استهلاك الورق بمقدار الثلث مُقارنة بما كان عليه الحال قبل 20 عاماً، ولا يعني ذلك انهيار صناعة الورق، بل على العكس احتفظت بازدهارها إلى حد كبير، ففي العام الماضي، أنتجت الولايات المتحدة نحو 21 مليون طن من الورق، ما يُعادل عدداً يراوح بين 55 و110 مليون شجرة، بحسب بعض التقديرات.
ويحتفظ الورق بمكانته أداةً رئيسةً داخل مكاتب العمل، وتُقدر مؤسسة «برنامج العمل المتعلق بالهدر والموارد» الخيرية المهتمة بالاستدامة والمعروفة اختصارا باسم «Wrap»، استهلاك العامل المتوسط بـ45 ورقة يومياً، ويُعد أكثر من نصفها إهداراً. وتُقدر شركة «إيرون ماونتن» للإدارة مكاتب العمل التي تعمل فعلاً دون أوراق بنسبة 1% فقط. ويتفق المحلل في شركة «آي دي سي» للأبحاث، ميك هايس، مع الآراء القائلة بالتراجع البطيء لاستخدام الورق، دون أن يعني ذلك التخلي عنه قريباً. وقال: «حالياً أصعد على متن الطائرة بإظهار تذكرة إلكترونية على شاشة هاتفي، لكن لايزال لديّ جواز سفر ورقي، وسيستغرق الأمر بعض الوقت لاستبدال هذه الوثيقة».
وتتخذ جهات العمل خطوات تدريجية تجاه خفض استخدامها من الأوراق. وحسب هايس فيُمكن لخطوة بسيطة مثل نظام لإدارة الطباعة يُقلل من عدد رسائل البريد الإلكتروني المسموح بطباعتها أن يحد من استخدام الورق بنسبة تصل إلى 20%.
ومع ذلك، لفت هايس إلى تفضيل الناس للورق في أغراض بعينها، كما أشار إلى الدراسات التي بينت تنشيط التعليم من خلال الشاشات لأجزاء من الدماغ تختلف عن تلك المرتبطة بالتعلم من الورق.
وفي كل الأحوال، سيُواصل الورق رحلته مع البشر على الأقل في المدى المنظور، سواء لأسباب عملية أو اقتصادية أو حتى الاعتياد والارتباط التاريخي.