مستخدمو «الإنترنت» الحاليون يناقضون أنفسهم بشأن الخصوصية
يكاد النقاش لا يتوقف حول حق مستخدمي شبكة الإنترنت في الحفاظ على خصوصية معلوماتهم الشخصية، ومخاوفهم من انتهاك الشركات الكبيرة والحكومات لهذا الحق، لكن ذلك كله لم يُؤثر في إقبال ملايين الأشخاص على الشبكات الاجتماعية والهواتف الذكية، وقبولهم مشاركة معلوماتهم الشخصية طوعاً مع شركات الإنترنت وغيرها، الأمر الذي يُشير إلى تناقض صارخ في مواقف المستخدمين، بحسب ما تناول الكاتب جون نوتون في مقال بعنوان «لماذا حولتنا شبكة الإنترنت إلى منافقين» في صحيفة «الغارديان» البريطانية.
وأشار نوتون بدايةً إلى عبارة «الحمقى النافعون» Useful Idiots التي تُستخدم في الأوساط السياسية، وارتبطت لبعض الوقت بفترة ازدهار الاتحاد السوفييتي السابق، لوصف المثقفين الغربيين الذي زاروا روسيا آنذاك، وأخفقوا في إدراك التكاليف البشرية التي رافقت بناء ما رأوه «مدينة فاضلة شيوعية». وعموماً تُشير العبارة إلى أشخاص يتحمسون في الدعوة لقضية ما، دون أن يتفهموا تماماً أبعادها المختلفة.
وعلى غرارها، يرى «نوتون» أن مصطلح «المنافقون النافعون» يُلائم مستخدمي «الإنترنت» الحاليين، وكتب: «أقترح الآن مصطلحاً جديداً مُشابهاً وأكثر ملاءمةً للعصر الذي نحيا فيه: المنافقون النافعون، وهؤلاء هم أنا، وأنت، وهو، ما يرانا عليه سادة العالم الرقمي، ولديهم أسباب وجيهة جداً لرؤيتنا على هذا النحو».
وفسر الكاتب: «يسمعوننا نتذمر بشأن الخصوصية والأمن والمراقبة إلى آخره، لكنهم يلاحظون أنه على الرغم من شكاوانا وشكوكنا، فإننا لا نفعل شيئاً حيالها.. وبكلمات أخرى نقول شيئاً ونفعل شيئاً آخر».
وهو رأي يدعمه العديد من الإحصاءات، وعلى الرغم من ورود معظمها من الولايات المتحدة، فإن الحال لا تبدو مختلفة كثيراً خارجها.
وأشار المقال إلى دراسة أُعلنت نتائجها، خلال نوفمبر الماضي، وتناولت التصورات العامة للخصوصية والأمن في عصر ما بعد المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية، إدوارد سنودن، الذي كشف في عام 2013 عن مراقبة الوكالة لاتصالات الهواتف والإنترنت.
وأجرى الدراسة «مركز بيو للأبحاث» ضمن «مشروع الإنترنت والحياة الأميركية»، الذي يُعد واحداً من أهم المصادر وأكثرها موثوقية لدراسات سلوكيات مستخدمي الإنترنت، ويُجري استطلاعات منتظمة عن استخدام الأميركيين للإنترنت.
ويُمكن تلخيص نتائج الدراسة في أنه بينما يقول الأميركيون إنهم يريدون الخصوصية، فإنهم يتصرفون كما لو كانوا لا يريدونها، وبكلمات أكثر تفصيلاً: «يقول الأميركيون إنهم قلقون للغاية بشأن الخصوصية على شبكة الإنترنت وعلى هواتفهم المحمولة، وكما يقولون إنهم لا يثقون بشركات الإنترنت أو بالحكومة لحمايتها، ومع ذلك يواصلون استعمال الخدمات وتسليم معلوماتهم الشخصية».
وتوصل استطلاع «بيو» إلى أن تراجع الثقة بالاتصالات الهاتفية وعبر الإنترنت تصاعد عقب تسريبات «سنودن». وأشار 81%، ممن شملهم الاستطلاع، إلى عدم شعورهم بالأمان في استخدام الإعلام الاجتماعي لنشر معلوماتهم الخاصة. ويتفق أكثر من ثلثي المشاركين في عدم الشعور بالأمان عند استخدام الدردشة على الإنترنت، و59% منهم مع الرسائل النصية، و57% عند استخدام البريد الإلكتروني.
كما عبر 46% ممن شاركوا في استطلاع «بيو» عن شعورهم بعدم الأمان، عند التحدث في الهواتف المحمولة، ولم تسلم الهواتف الثابتة من شكوك المستخدمين، إذ قال 31% من المشاركين إنهم لا يشعرون بالارتياح إزاء استخدامها. وأشار المستطلعة آراؤهم إلى تشككهم في حكوماتهم وفي شركات الإنترنت الكبيرة على حدٍ سواء.
لكن هذه الشكوك التي شملت مختلف وسائل الاتصال لم تُؤثر كثيراً في إقبال المستخدمين عليها؛ فكشف أكثر من نصف المشاركين عن استعدادهم لمشاركة معلوماتهم الشخصية مع الشركات، مقابل الحصول على ما يُطلق عليه «خدمات مجانية». ورأت نسبة تتجاوز الثلث منهم أن كفاءة تلك الخدمات تزيد، بفضل القدرة على استغلال المعلومات الشخصية.
وفي ما يتعلق بالقلق من وصول المعلنين إلى البيانات الشخصية، قال 80% ممن يستخدمون الشبكات الاجتماعية، إنهم قلقون من وصول المعلنين وغيرهم من الأطراف الخارجية إلى بياناتهم التي ينشرونها على تلك الشبكات.
وعموماً، تفتقر قنوات الاتصال على الإنترنت إلى ثقة البالغين، ولا توجد وسيلة إلكترونية واحدة يعتبرها معظم المستخدمين الأميركيين «آمنة جداً» عند مشاركة المعلومات الشخصية مع شخص آخر أو مع مؤسسة.
ومع وصول استطلاع «بيو» إلى نتيجةٍ مفادها اعتبار الأغلبية العظمى من الأميركيين قنوات الاتصال عبر الإنترنت والهواتف ــ في أحسن الأحوال ــ غير آمنة إلى حدٍ ما، إلا أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم يُواصلون استخدام القنوات نفسها.
وبحسب «نوتون»، فإن هذا يشير إلى معاناة مُعظم مستخدمي الإنترنت، مما يُطلق عليه علماء النفس «التنافر المعرفي أو الإدراكي»، وهي حالة تتضمن شعور الفرد بعدم الراحة، نتيجة مواجهته أفكاراً أو معتقدات أو اتجاهات متعارضة، لاسيما ذات الصلة بالقرارات السلوكية وتغيير التصرفات.
ويطرح ذلك سؤالاً بديهياً عن سبب استمرارنا في استخدام قنوات اتصال لا نثق بها، وتتمثل الإجابة التقليدية في غياب البديل. وفي بعض الحالات يُحاصر الناس بـ«قوة الشبكة»، أي القوة التي تُقنعهم بضرورة الوجود في «فيس بوك»، حتى إذا لم يكونوا في الحقيقة يحبون استخدامه.
وتابع المقال بمثال عن الحديث عن تعرض مراهقين للمضايقات والترهيب، نتيجة عدم استخدامهم موقع «فيس بوك»، وهذا ما لا يدعم استقلالية التصرفات.
وفي اتجاه آخر، يستخدم البعض خدمات البريد الإلكتروني على الإنترنت التي تُوفرها شركات مثل «غوغل» و«ياهو» و«مايكروسوفت»، نتيجة عدم رغبتهم في دفع المال مُقابل خدمات البريد.
وعلى الرغم من توافر التكنولوجيا التي تحمي الخصوصية، مثل التي تُتيح تشفير البريد الإلكتروني، فإن أكثر الناس لا يستخدمونها لصعوبة تطبيقها، ولأنه عندما يحين الوقت للتصرف الفعلي لا تكون الخصوصية بمثل أهميتها عند مجرد الحديث عنها.
واختتم نوتون مقاله: «وفقاً لهذا المعنى، هل من الممكن أن يكون ما نحصل عليه ليس الإنترنت الذي نريده، وإنما الإنترنت الذي نستحقه؟ ترفع التكنولوجيا عالياً مرآةً للطبيعة البشرية، وما نراه فيها هو (منافقون نافعون)».